فُتنت بتعاطي جوديث بتلر مع الجندر مذ سمعتها لأول مرة تتحدث عن تعرُّضِ فتى في مراهقته لتنمّرٍ من فتية قريته الصغيرة لحيازته على مشيةٍ غريبة. اعتبرها الفتية هؤلاء مشيةً أنثوية، وذلك ما وصّفتها بتلر أيضًا، ولذا تعرّض لتنمّرٍ مستمر قبل أن يدخل في شجار مع بعض الفتية قبل أن يرموه من على جسرٍ لينتهي قتيلاً. لم تقم بتلر بمحاولة تبرير حيازة الفتى على مشية غير ذكورية بما فيها الكفاية للفتية المتنمرين، بل كانت تحاول أن تفهم منشأ التنمّر ذلك نفسه. إذ ما الذي يُمكن له أن يوحي لفتية بقتل فتى لم يكن رجلاً بما فيه الكفاية؟ وما الذي يدفع الإنسان للوصول لهذه المرحلة من رفض تصرفات يجدها شاذة حد قتل صاحبها؟ أبقت بتلر على السؤال مفتوحًا، بيد أنها لمّحت بعض الشيء لما تظنّه منشأً لرفض المشية تلك: هلع وخوف من قبل هؤلاء المتنمّرين تجاه ما لم يعهدوه، ما يجعل من إلغاء هذه المشية الغريبة المتجاوزة للطبيعيّ في نظرهم أمرًا ملحًا. (1) لم أتوقف هنا طبعًا، وذهبت بتحليلي لمرحلةٍ أبعد: ما يجعل الأمر ملحًا عند هؤلاء أكثر من غيرهم هو احتمالية أن تكون تلك المشية جزءًا طبيعيًا من حياتهم هم، إذ أن إمكانها على ذكرٍ يعني أنها من الممكن أن تكون جزءًا من هوية أي ذكرٍ آخر. تنتمي أقسى وأكثر مخاوفنا إلحاحًا، ما يجعل منّا أن نتفاعل مع الأمور بالحدية التي تفاعلوا هم بها، تنتمي لأنفسنا ولخوفنا على هوياتنا وكياناتنا من الضياع.
لم تكن إجابة بتلر، القصيرة والمقتضبة، سوى شعلةً لأفكار متعددة حول الجندر وما يرتبط به من دلالاتٍ متعددة، وبالكم البسيط الذي كنت أتّصل به من الأدبيات النسوية، ما دفعني بالطبع لقراءة كل ما حازت عليه يدي من كتابات بتلر، وما دفعني لمتابعة كل ما يوجد في اليوتيوب لها، ما يحتم عليّ بالطبع قراءة مقالاتها الصحفية إذا وُجدت. كانت بتلر، وما زالت، من أكثر الكتّاب والمفكرين القادرين على بدء سلسلة من الملاحظات والأفكار بداخلي، والتي لا تحتاج لقراءة أخرى كي توحي للنظر للعالم بشكلٍ مختلف. ولذا كان من الطبيعي جدًا أن أقرأ مقالتها في جريدة الغارديان قبل ما يقارب الشهر، وهي ذات العنوان اللامع: “لماذا تثير فكرة الجندر رد فعلٍ عنيف حول العالم؟” (2)، إذ أنه لا بدّ أن مفكرةً بلمعان بتلر وقدراتها التحليلية أن تقدّم قراءةً تتجاوز الأيديولوجيا والمواقف القيَميّة للجدل ورد الفعل العنيف الحاصل اليوم تجاه الثورة الجنسانية في مختلف أقطار هذا العالم. غير أنني، وللأسف، صُدمت بالعكس. ما وجدته عند بتلر في مقالتها الأخيرة أقرب ما يكون لأيّ مقالة معلّبة يمكن لأي ناشط عابر في الجانب السياسي ممن ينتمي لأفكار بتلر أن يكتبها. ومن هنا، على الرغم من امتعاضي الكبير وخيبة أملي الأكبر تجاه مقالة بتلر، إلا أنني سأنطلق منها هي لمحاولة كتابة مقالة بديلة: ماذا لو أعدنا كتابة مقالة بتلر، في محاولة لفهم الجدل والعنف الأيديولوجي المرتبط بجنسانية الإنسان ككل في هذا العالم، في محاولة لتجاوز الأحكام القيمية، مستندين على مبادئ وأفكار جوديث بتلر نفسها؟ يمكن أن نعدّ هذه المقالة محاولة لفعل ذلك.
ما المُقلِق؟
تسرد بتلر الاعتراضات الرسمية حول العالم على بزوغ نظرية الجندر ودخولها للإطار الأكاديمي. لا تنطلق بتلر في تحديد سبب قلقها من اعتراضات هامشية من أطراف فاعلة في جانب يمينيٍّ ما، بل هي تأتي على ذكر تصويت برلمان النمسا مؤخرًا على إلغاء المقررات الدراسية التي تتحدث عن “الميول المثلية وتغيير الجنس”، كما تذكر اعتراضًا رسميًا في البرلمان الهولندي على دراسات الجندر ونظرية العرق النقدية، والدراسات ما بعد الكولونيولية كذلك. وتستمر بتلر في سرد مواقف رسمية أخرى على مستوى البرلمانات والأحزاب الرسمية في أوروبا وفي أميركا الجنوبية وتركيا وغيرها. إذ لا تتحدث بتلر هنا عن اعتراضات جيل قديم على جيل حديث، وعن مبادئ متباينة بين أجيال متعددة، كما أنها لا تتحدث عن الاعتراض المحافظ العام على ظهور المثلية والمثليين في معظم إنتاجات نتفلكس وبقية المنصات التي تحافظ على التمثيل المتساوي والمصيب سياسيًا. هي تنطلق هنا، في حقيقة الأمر، من قلق من تصاعد متسارع لرفض هذه الثورة الجنسانية، يصل حد البرلمانات وحد إقامة مناطق يُمنع فيها دخول المثليين والعابرين جنسيًا في أوروبا بهيئة تشير إلى هوياتهم الجندرية أو ميولهم الجنسية. هي هنا تعبّر عن قلقٍ بالغٍ تجاه سلامة وأمن المنتمين لمجتمع الميم هذا بعد أن تمكنوا من كسب جزء كبير من الرأي العام ومن القوانين التي تصبّ في صالح أمنهم وحقوقهم. ليس أول المكتسبات تلك، والتي تؤكّد بتلر على ارتباطها بدراسات الجندر والجنسانية والنسوية بالعموم، هو حكم المحكمة الدستورية الأميركية بقانونية زواج المثليين، وليس آخر تلك المكتسبات قوّة حضور المثليين في الإطار العام عبر مسيرات “الفخر” وعبر وجودهم في المنصات الأضخم، مثل نتفلكس وغيرها.
يمكن لنا، انطلاقًا مما سبق، أن نفهم أن قلق بتلر هنا أشبه بقلق من بدأ بتحقيق مكتسبات بديهية حقوقية في حراك طويل وواسع ضد قمع رمزي وفعلي، يعاود البزوغ من جديد ولكن دون أن يكون مخفيًا بشكلٍ كامل. قلقُ بتلر هنا قلقٌ موضوعي وفي مكانه، وهو تمامًا ربما ما يجعل منها أن تكتب مقالةً بهذه الحدة الأيديولوجية. إذ ليست بتلر في مقالتها الأخيرة بمنظّرة مجردة، كما يمكن لنا أن نراها في مواضع كثيرة من كتبها ومن محاضراتها، ولكنها في مقالتها تقدّم موقفًا سياسيًا واضحًا يدافع عن كيانها وعن حراكها تجاه عنف وقمع حقيقي. وربما ذلك تمامًا ما يستدعي فهمًا مختلفًا، لا يبرئ هذا العنف، بالطبع، وهو الذي استمر لسنوات بشكله الواقعي وبشكله الرمزي أيضًا، ولكنه يفهمه جنبًا إلى جنبٍ مع إدانته، وذلك للوصول لما يتجاوز القراءة الأيديولوجية لقراءة تتناول أبعاد الموضوع المتعددة.
ما هي نظرية الجندر وما مسببات الهلع العام ضدها؟
لا بد، في البدء، أن نفرّق بين جزئين مهمّين في حقل الأسئلة التي نريد أن نجيب عليها. إذ أنه من الضروري أن نفهم مغزى دراسات الجندر والجنسانية ككل في جانب، ومن الضروري أن نفهم ما يعترض عليه المعترضون فيما يتعلّق بها في جانب آخر. وذلك ما لا يجب أن يكون بالضرورة هو ماهية هذه الدراسات نفسها؛ وذلك لكون آثارها وأعراضها تتجاوز النظرية بذاتها وتتجاوز الحقل الأكاديمي منها. لم يصوّت مجلس النواب الإيطالي، مثلاً، على إلغاء دراسات الجندر تحديدًا، بل صوّت ضد تحويل معاداة المثلية لجرم شبيه بالعنصرية. (3) ما صوّت ضده تحديدًا هو التصاعد الاجتماعي والأيديولوجي للمناداة بحقوق المثليين، بل والتصاعد الاجتماعي والأيديولوجي لكل ما يتعلّق بمجتمع الميم ككل، ما لا يختص مباشرةً بنظرية الجندر بذاتها، كما أنه ما لا يمكن القول عنه أنه رفض للأفكار الراديكالية التي تقدّمها جوديث بتلر، أو يقدّمها مجتمع الميم. بل هو، في حقيقة الأمر، رفض لتداعيات تلك الأفكار الغامضة والمجهولة -للمعترضين- كلها. ذلك ما لم تفككه وتحلله بتلر، بالطبع، بقدر ما اتهمت المعترضين بالجهل ورفض الاستماع والتعلّم لحقل الدراسات الغامض والمتعدد، قبل أن تتهم الرافضين هؤلاء كلهم بالفاشية. غير أننا من أجل أن نفهم تداعيات الأفكار الغامضة المرفوضة من قبل اليمين المدّعى من قبل بتلر؛ لا بد لنا أن نقدّم تلخيصًا معينًا يمكن لنا أن نتناوله لنفكك ونفهم تداعياته على الخطاب العام غير الأكاديمي؛ ما سأفعله منطلقًا من بتلر نفسها.
ما هو الجندر؟
يُمكن القول عن إسهامات بتلر في نظرية الجندر بأنها تأسيسية؛ إذ لا تنطلق بتلر هنا من أدبيات نسوية سابقة فحسب، بل هي تساهم في تكوين الأفكار الأساسية التي تتم دراستها في ما يسمى بدراسات الجندر اليوم في أي من الإطارات الأكاديمية التي تدرّسها. فما يمكن ملاحظته هو أنها، رغم أنها تعترف بسيمون ديبوفوار مثلاً وتستخدم تفريقها الأساسي بين الجندر والجنس في مقولتها الشهيرة “لا يولد الإنسان امرأةً بل يصبح امرأةً.”، غير أنها هي من يمكن أن نُرجع الآيديولوجيا الضخمة والبركانية التي تأكل العالم اليوم إليها، وليس إلى سيمون ديبوفوار على الرغم من شهرتها طبعًا. إذ ما وصلت إليه بتلر، فيما يخص الجندر، هو ما يمكن أن نقول عنه التحليل الأكثر راديكالية الذي يسمح للأنماط المتعددة من الكويرية، وهي التي تسبق التنظير طبعًا، للبزوغ.
تنطلق بتلر في تعريف الجندر من التفريق الاعتيادي بينه وبين الجنس، إذ أن الجندر هو الدور الاجتماعي التفاعلي performative، (4) وتكمن كلمة السر عند جندر في هذه التفاعلية performativity التي تعيد تكرارها في غالب أدبياتها الجادة، وهي ما أشارت لها سريعًا -دون ذكر المصطلح نفسه- في المقالة المذكورة أعلاه. ليس الجندر، عند بتلر، بشيء محسوم وواضح كما هو الجنس مثلاً، والذي تحدده الأعضاء التناسلية التي يولد بها الإنسان. بل هو، باعتبار أنه تفاعل هوية الإنسان ودوره مع توقعات وفروض المجتمع والتاريخ وفسيولوجيا الجسد، متشكّل بتفاعلٍ معقد مع المحيط والجنس أيضًا. ومن أجل فهم ذلك جيدًا، يجب أن نفهم جندر بتلر من منطلقين: المنطلق التحليلي أولاً، ومن ثم المنطلق الأيديولوجي المنبثق من التحليل نفسه.
تحديد الجندر، كما تراه بتلر، يتأثر بعوامل متشابكة ومعقدة، غير أنها تعتقد بأنه يكتسب صفته التفاعلية منذ اللحظة الأولى للولادة حينما يتم ذكر جنس الطفل من قبل الطبيب مثلاً: وُلدت لك فتاة. تكمن اللحظة التفاعلية (أو بالأصح المفعولية) هنا في الحمولة الاجتماعية والثقافية التي تحملها كلمة فتاة فيما يتجاوز جنس المولودة نفسها. إذ يمكن، بمجرد ذكر أنها فتاة أن نتخيلها بفستانٍ وبمكياج وترتدي اللون الزهري على سبيل المثال. تعتقد بتلر أن لحظة تكوّن الجندر الأولى هي لحظة ربط الجنس -أي عضو المولود التناسلي- بكل تلك الدلالات الاجتماعية المفروضة مسبقًا من قبل المجتمع. في تحليلها القائم، تنتقد بتلر هذه التفاعلية التي تقرر دور الطفل الاجتماعي منذ ولادته، طبعًا، غير أنها في الوقت نفسه تفهمها ولا ترفضها بالمطلق. إذ تؤكد بتلر مرارًا وتكرارًا بأنها تفهم العوامل المعقدة التي تجعل من الجندر شبه حتميٍ ومقرر سلفًا وأنه مرتبط بالجنس. غير أنها تؤكد، وهنا تكمن ثوريتها، على سيولة المفاهيم الاجتماعية التي تحدد الدور الجندري المذكور. وهذه السيولة لا تخفى على أحد، حتى على أعتى المنكرين لنظرية الجندر. لكن ما تقدمه بتلر هو أنها تؤكد على اعتباطية هذا الدور، وعلى الدور الحر والفاعل للفرد أولاً والمجتمع ثانيًا في تحديد الهامش الممكن للخروج من الثنائية المحسومة للجندرين الواضحين بصفات ثابتة. بل هي تعبّر، بشكلٍ شاعري خلّاب، عن أن الجندر فشلٌ في جوهره بدرجة ما. إذ أننا نفشل دائمًا في تحقيق التوقعات الجندرية، وهي ما تجد الفشل فشلاً في التوقعات، وانتصارًا للفرد وللحرية.
ومن أجل فهم الأفق المرسوم في نظرية بتلر، أجد نظرية المثقف العضوي لدى قرامشي تتقاطع معها جيدًا: إذ يؤمن قرامشي بالحتمية التاريخية الماركسية التقليدية -كما تؤمن بتلر بحتمية الجندر الاجتماعية في الأغلب-، لكنه يعتقد بأن المثقف العضوي هو من يعي هذه الحتمية التاريخية ويعي موقعه الاجتماعي -المتضرر- فيها، وبالتالي هو الأقدر على تحديد الهامش غير الحتمي البسيط والممكن للإنسان ليتفاعل في هذا التاريخ والمجتمع والاقتصاد ويؤثر فيه. فاعلية الجندر عند بتلر هي تمامًا فاعلية المثقف العضوي: أن يعي الفرد والمجتمع بحتمية الجندرية هذه، وأن يعي الهامش غير الحتمي فيها والذي يمكّنه من أن يكون حرًا ويتفاعل ويغيّر ويؤثر فيه. (5) وهنا يكمن بالضبط المنطلق الأيديولوجي الذي ينتهي به تحليل بتلر. إذ من هنا يُمكن النظر للحركة النسوية على أنها هذا التفاعل والتمرد على هذه الحتمية الجندرية، حيث أنها تحرير للمرأة الفرد من قيود جندرية شخصية على مستوى الصفات الشخصية تبدو أنها حتمية في حين أنها سائلة، وتحرير للنساء بالعموم من الحتمية الجندرية الاجتماعية التي تبقي المرأة في موقعٍ محدد مسبقًا وعلى مدى التاريخ. ومن هنا أيضًا يتم التنظير لمجتمع الميم، وللعابرين جنسيًا تحديدًا، وهم من وسّعوا هامش الحرية هذا حتى وصلوا لتغيير هوياتهم الجندرية بين الجندرين الكلاسيكيين، بل وحتى اختلاق هويات جندرية جديدة. (6) ومن جهة أخرى، يصعب تناول الجانب التنظيري للميول المثلية في هذه المقالة، كما أنها -بذاتها- ليست ما تقدّم بتلر فيها تحليلاً مختلفًا وخاصًا بشكل جذري، غير أننا يمكن أن نربطها بالمبدأ ذاته: تتشكّل الميول بدرجة بالغة من التعقيد لتصبح شبه حتمية كما هو الجندر، غير أنها، ولأنها مرتبطة بعوامل متشابكة ومعقدة، تحمل هامشًا ما من الحرية لا تجد بتلر ومن يتفق معها إلا أن يحترموه. (7)
نصل، بعد التحليل السابق ووفقًا له، إلى نقطة الفصل بين النظرية وبين تداعياتها على الخطاب المعادي لها. وقبل أن نحلل الرفض بذاته، نريد أن نفهم صفات الخطاب المنطلق من النظرية نفسها أولاً، إذ لا بد أن نؤكد على أن النظرية بذاتها لا تنفكّ عن أن تكون مثبّتة لأيديولوجيا واضحة ومباشرة فيما يخص الجندر وما يخص مجتمع الميم. نحن هنا لسنا فقط أمام فهم مختلف للجندر ولأدوار الأفراد الاجتماعية فيما يتجاوز الأدوار التقليدية تاريخيًا، بل نحن أمام نظرية تعيد تشكيل منظور الأفراد لأنفسهم ولمجتمعاتهم بشكلٍ جذري، لا يشبه الشكل القديم، ولا يشبه أي شيء ثابتٍ نعرفه أو يعرفه أصحابها حتى. وأشير هنا إلى أننا لسنا أمام حقل نظري محض يمكن لنا أن “نتعلّمه” كما تقول بتلر في مقالها الأخير، بل أمام تحوّل جذري منطلق من تلك النظرية دون نقاشها فعلاً، ما يتنافى مع ماهية التعلم الحقيقي، وهو الذي يقوم على النقاش والتفاعل العام، والذي لا يشوبه التلقين الأيديولوجي المحض. وهنا يمكننا أن نصل لأحد أسباب الرفض، وهو الذي يكمن في الخطاب المنطلق من النظرية نفسها. إذ على الرغم من أن حقل الدراسات الجنسانية هذا متّسع الأفق، وهو الذي يطرح الأسئلة أكثر مما يطرح الأجوبة كما أنه يتمركز حول الحرية، كما بيّنا أعلاه عند بتلر، إلا أن ما تسرّب للعالم هو أجوبة أيديولوجية جاهزة يتم تلقينها بطرق دوغمائية لا تشبه الحقل نفسه. إذ أن النظرية، بتعددها واتساع أفقها وحقلها وبنماذجها التي لا تتقاطع بالضرورة مع جوديث بتلر، ليست هي محور الرفض الأيديولوجي -والذي سنعاينه فيما بعد-، وإنما تداعياتها الأيديولوجية التي “تُدرّس” ويدعو أصحابها لـ”تعلّمها” هي محور الرفض الأساسي عند المجتمعات والحركات المحافظة في الأغلب الأعم. وإن لم ينطبق ذلك على المناهج التي يتم الاعتراض عليها، فهو بالتأكيد ينطبق على الأجهزة الإعلامية وشركات التقنية الحديثة وبشكل فاقع، وليست نتفلكس هي أكثرها تطرفًا. ذلك تمامًا ما لم تضعه بتلر في الحسبان، وهي المنظّرة الرائعة في هذا الحقل ذاته. إذ لا يخفى على أحدٍ أنه لا يمكن للتعلّم أن يكون تلقينيًا وأيديولوجيًا، بل هو بطبيعته جزء من نقاش تفاعلي تنطلق الأفكار فيه بحرية بالغة، ما لا يتوافق مع الجو الحديث من الصوابية السياسية التي ترافق الدراسات الجندرية وترافق الأيديولوجيا المرتبطة بها بوضوح.
ولستُ بتحليلي السابق أبرر رد الفعل الجماهيرية الشعبوية تلك، بالطبع، إذ أنها بحاجة لتمحيص ونقد وفهم هي الأخرى؛ إذ ذلك ما يساعد في مواجهة عنفها وإقصائها. غير أنها أعم وأكثر شمولاً من مجرد انفعال فاشيّ معادي للمثلية والعبور الجنسي، كما أطلقت عليه بتلر. تجد المجتمعات اليوم نفسها، تمامًا كما وجد الفتيان أنفسهم على الجسر حينما رؤوا فتى بمشية أنثوية. ليس الهلع اليوم هو مجرد هلع أيديولوجي رافض لحريات الآخرين، ومنسجم مع منطلقات محافظة فاشية لا تقبل بالمبادئ التقدمية وبحقوق الآخرين -وهو كذلك في كثير منه-، بل هو في حقيقة الأمر خوف من المجهول ومن تغيّر كيان الإنسان والمجتمعات الإنسانية ككل، ما يدفع بها لاستخدام سلطاتها وإمكاناتها في الدفاع عن توجهاتها الأيديولوجية الاعتيادية، ما ينتهي بالطبع بعنف وإقصاءٍ بدرجاتهما المتعددة.
وهنا أجد الرفض العام الذي من الممكن أن يراه المراقب في المجتمع السعودي عند الشباب لدخول المرأة في الإطار العام وفي سوق العمل مثالاً جيدًا. إذ يخطئ من يحيل رفض الشباب وامتعاضهم من دخول المرأة المفاجئ هذا إلى ذكوريتهم وأبويتهم ورفضهم التنازل عن سلطاتهم العائلية والاقتصادية فقط، وهو الذي يُمكن لنا أن نعتبره أحد الأسباب بالطبع. كما أنه من الخاطئ أيضًا أن يكون الامتعاض والرفض عائدًا إلى مظلوميةٍ ما مرتبطة بتفضيل النساء على حساب الرجال في كثير من الأعمال، مثلاً، وهو الذي يُمكن لنا أن نعتبره سببًا أيضًا. بل ما يُمكن أن نعيد هذا الامتعاض والرفض له هو أزمة جندرية بامتياز، واستنادًا إلى بتلر نفسها أيضًا. إذ أن الموقف الذي يجد الرجل السعودي نفسه فيه هو موقف يسائل موقعه وتعريفه لنفسه في المقام الأول قبل أن يسحب منه امتيازاته. لا يمكن فهم الرجل في السعودية في العقود السابقة دون دوره التقليدي الواضح جدًا: أن يعمل ليكون رب منزلٍ يعيل أسرته بغض النظر عن الكفاءة وعن أي صفات شخصية أخرى تتجاوز صفات الرجولة. إذ أن الظهور في الإطار العام لا يحتاج من الرجل إلا أن يكون رجلاً، وأن يعمل ويعيل أسرته أيضًا لا يحتاج من الرجل شيئًا سوى أن يكون رجلاً بالحد الأدنى من المعنى التقليدي. يكمن فهم الرجل السعودي التقليدي لنفسه كله في رجولته، وهو يجد، مع التغييرات الجديدة، أنه بحاجة إلى أن يعرّف نفسه بشيءٍ آخر سوى صفات الرجولة، وهي -أي الرجولة- ما أصبح بحاجة لإعادة تعريفها نفسها أيضًا. لم تعد الرجولة كافية لتحصل على وظيفة، ولم يعد دور الرجل أن يعيل أسرته، كما لم تعد الرجولة شرطًا كافيًا للخروج للعالم. يكمن جوهر الأزمة هنا في تعريف الإنسان لنفسه، وهي أزمة جندرية ووجودية بامتياز، إذ يجب على الرجل أن يبحث عن المعنى وعن الدور المناسب الذي لم يعد مقررًا سلفًا، كما يجب عليه أن يجد شيئًا آخر يجعله رجلاً غير ما اعتاد عليه. ولذا، نجد أن الاعتراض في الغالب يأتي من الرجال الذين لم يعودوا قادرين على الانتفاع من رجولتهم وحدها، وليس ذلك دفاعًا عن الامتياز بقدر ما هو اعتراض على أزماتهم الوجودية نفسها.
ومن هنا، أجد أننا نعود تمامًا إلى حديث بتلر عن المراهق الذي رُميَ من على الجسر: ليست الحركات المحافظة والمناهضة لدراسات الجندر وللنسوية ولما يرتبط بهما ببعيدين كثيرًا، في فهمنا لهم، عن فهمنا لحالة التنمر المثيرة للشفقة والمخيفة تلك. تجد الرؤية المحافظة تلك حتمية كاملة للجندر وللميول، ولذلك دائمًا ما تقدّمها على أنها جزء من طبيعة الإنسان وأن ما غيرها هو شاذ وغير طبيعي ومرضي، في عجز مطبق عن اكتشاف الهامش الذي تراه بتلر في قدرة الإنسان على التغيير وعلى أن يتحرك في تغيير قيوده وشكلها إلى أفق أرحب. تقول بتلر أننا نتحرر، حتى وإن كنا بداخل الجندرين التقليديين، من قيود تعيقنا من أن نعيش حياة أسهل للعيش، تمامًا كما يتحرر أولئك الذي لا يمكنهم أن يبقوا ضمن الجندرين التقليديين. ويمكن القول أن حتى المجتمعات المحافظة هذه قادرة على أن تتحرر من قيود لا تعيها ويعيقها الحذر من رؤيتها فيما يخص الجنسانية ككل، لو اكتشفت الهامش الذي تدعونا لاكتشافه بتلر نفسها. إذ كان من الممكن للفتية الذين قتلوا الفتى أن يتحرروا من قيودهم النفسية والإجرامية لو اكتشفوا الهامش الذي اكتشفه هو، بطرق مختلفة وبعيدة عن القتل. نحن في هذه اللحظة أمام الخوف والذعر نفسه، لكن دون خطورة القتل بالضرورة، وهو ممكن، بل أمام سؤال أكثر إلحاحًا: كيف يمكن لنا أن نتعامل مع الخوف والهلع ذلك دون أن يكون إدانةً لقتلٍ قبل أن يتحقق؟ يبدو لي، وعلى اعتبار تصاعد الأمر أيديولوجيًا بقوةٍ ما، أن فهم الرفض المحافظ العام هذا بدقة شرط أساسي لمواجهة عنفه الرمزي والواقعي دون الانزلاق إلى التفسيرات الأيديولوجية السهلة، والتي قد تمنعنا من الوعي بأخطاء سياسية وأيديولوجية كارثية في الوقت نفسه الذي تزداد فيه المواجهة عنفًا وآثارًا سلبيةً قد لا تكون ضرورية.
(1) توجد كلمة بتلر المذكورة في وثائقي فرنسي طويل عنها، ويمكن مشاهدتها هنا بين الدقيقة 4:20 والدقيقة 6:50:
https://www.youtube.com/watch?v=ALx1MEW2P3U&ab_channel=redetrigan
(2) المقالة بالإنجليزية:
https://www.theguardian.com/us-news/commentisfree/2021/oct/23/judith-butler-gender-ideology-backlash
(3) https://www.dw.com/en/italy-senate-rejects-anti-homophobia-law/a-59644742
(4) تمت ترجمة performative من قبل إلى “أدائي/ة” بدلاً من “تفاعلية”، وفضّلت ترجمتها هنا إلى “تفاعلية”، إذ أنني أجدها كلمة ديناميكية تحمل أكثر من بعد. إذ تجتمع فيها أفعال المجتمع والثقافة -أي التوقعات الجندرية المتراكمة تاريخيًا- والفرد في آن واحد. أي أن بتلر حينما تقول performative، هي في حقيقة الأمر تتحدّث عن أثر تفاعل التوقعات الجندرية ثقافيًا في الحين ذاته الذي يفرضها المجتمع فيها، وفي الحين ذاته الذي يقرر الفرد أن يساهم فيها بدرجةٍ أو بأخرى. ولذا فضّلت “التفاعلية” على “الأدائية”، إذ أجدها أكثر تعبيرًا عن الأبعاد المختلفة التي تحملها كلمة performative. وهو مفهوم معقد، يصعب فهمه ناهيك عن ترجمته، متمنيًا أن يكون الشرح فيما بعدها وافيًا في شرح المعنى المفترض.
(5) راجع:
Gramsci, Antonio. Selections from the Prison Notebooks. New York: International Publishers, 1971.
(6) راجع:
Butler, Judith. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. New York: Routledge, 1999.
Butler, Judith. Notes Toward a Performative Theory of Assembly. Harvard University Press, 2015.
(7) يُمكن لنا أن نقول أن الحتمية تذهب في الاتجاهين، وفقًا لبتلر ومن يتفق معها: إذ يجد معظم الناس ميولهم محددةً دون قدرة منهم على اختيارها في الغالب، سواء كانت مثلية أم غيرية. وذلك في الحين ذاته الذي يمكن لنا أن نجد هامشًا ما من الحرية أيضًا.
قراءة متأخرة لمقالة رائعة.
استوقني مثالك الذي طرحت عن دخول المرأة سوق العمل المحلي. تقولُ: “لا يمكن فهم الرجل في السعودية في العقود السابقة دون دوره التقليدي الواضح جدًا: أن يعمل ليكون رب منزلٍ يعيل أسرته بغض النظر عن الكفاءة وعن أي صفات شخصية أخرى تتجاوز صفات الرجولة.”
سيكون هذا التحليل دقيقًا لو أن انخراط المرأة في الكسب وإعالة البيت ظاهرة حديثة بالفعل، لكن كيف نفسر أن النساء تاريخيًا ساهمن في الكسب -أو تحملنه كليةً- قبل عملية تمدين المملكة وبعدها، خاصة في مجالات كالصحة والتعليم، دون أن يثير الأمر امتعاضًا -إن صح ظني-. أي أن مساهمتهن الاقتصادية لم تشكل تهديدًا حينها لدور الرجل التقليدي.
نعم، لعل منبع الامتعاض الحالي خوفٌ يتهدد موقع الرجل في المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والامتيازات التي يتحصلها منها، لكنه ليس خوفًا من إلغاء دوره كمصدر للمال في الأسرة مثلًا -إن صح فهمي للمثال أعلاه-.