في حديثٍ مطوّل عن السينما وأهميتها في ترسيخ الأفكار عمومًا والتاريخية خصوصًا، يمتدح أحد الأساتذة الذين التقيت بهم في الفترة الماضية، وهو الذي يُجاهر بإلحاده ويأسِه من الحياة الماديّة التي لا معنى غير ميكانيكي لها، بالنسبة إليه، يمتدح هذا الأستاذ “ميل غيبسون”، وذلك بعد أن وصفه بالخنزير غير الأخلاقي. فميل غيبسون في رأيه، على الرغم من معاداته للسامية (أو اليهود بالأحرى)، ومعاداته للمثليين وتعصّبه الديني، إلا أنّه صانع أفلام مميز..
المفارقة هنا، أن هذا الأستاذ مُعجبٌ برؤية ميل غيبسون السينمائية في الجانب الروحي منها، فهو متأثّر بفيلم ميل غيبسون عن المسيح أكثر من تأثّره بفيلمه “القلب الشجاع” والذي نال الصيت الأوسع..
من هنا، ومن خلال فيلم ميل غيبسون الأخير Hacksaw Ridge، أعتقد أنّنا في مفارقةٍ مهمة بين الساحة الفكرية الغربية والساحة الفكرية الشرقية، والعربية منها خصوصًا، وهي مفارقة مثيرة للاهتمام بشكل كبير.
حيث، قد يجد الكثير من النقاد في الغرب، أنّه بمجرّد إنتاج عملٍ فني أو ثقافي مرماه إعادة صياغة رؤية دينية وروحية غير مادية، يخسر هذا العمل طيفًا واسعًا من المتابعين المثقفين في الساحة الفكرية الغربية، وذلك بسبب إمكانية سقوط العمل الفني هذا في اللاعقلانية والخرافة، على حد اعتقادهم، وإن لم يكن هذا الطيف الواسع ملحدًا أو لادينيًا بالضرورة. علمانيتهم، أو دنيويتهم تكفي لرفض الرؤى غير العقلانية هذه.
إلا أن التحدي الأبرز يكمن في إمكانية تقديم عمل ذي رؤية دينية أو روحية أو نفسية لامادية، قادر على الانسجام مع الساحة الفكرية الدنيوية المادية هذه، وقادر على فرض نفسه كعمل ذي وجهة نظر قوية تستحق الالتفات لها. وأظن، ذلك ما نجح ميل غيبسون في تقديمه من خلال فيلمه الأخير. الفيلم الذي يتحدث عن شخصيةٍ مثيرة للاهتمام بشكل واسع، تنطلق من دوافع دينية في رفض العنف واستخدام السلاح في ظل الحرب العالمية الثانية، وذلك في الوقت نفسه الذي تريد هذه الشخصية المشاركة في الحرب، ولكن دون حمل السلاح بالمطلق. يُجبرك، وأظنه يُجبر الجميع، على احترام ما أسميه دون تردد، بلاعقلانية هذا المتديّن السلمي سلميّة غاندي في ظل الدمار الذي يصوّره ميل غيبسون بكل وحشيته.
عمومًا، أعود للمفارقة الأولى:
أجد المفارقة هنا بين الساحتين الفكريتين، العربية والغربية، مهمة جدًا ومثيرة للاهتمام.. حيث الثوريّة في المجتمعات العربية قائمة على محاولة التقليل من تحكم الرؤية الغيبية والدينية في الرأي العام، وبالتالي محاولة إرجاع الإنسان إلى العقل بقدر الإمكان. في حين أنّ الثورية في الغرب تكمن في تقديم رؤية دينية أو روحية، تعترض على المادية التي اكتسحت الرأي العام، في قالبٍ قادر على الولوج في التيارات المختلفة في هذه الساحة، بل وقادر على الإقناع. بل وقادر على إنقاذ الإنسان من الفردانية الوحشية في كثيرٍ من الحالات المأزومة.
أظنّها مفارقة تستحق الدراسة. حيث السؤال: كيف يُمكن الوصول لمنتصف الطريق بين الثوريتين؟
–
1/25/2017