احتجتُ لقهوةٍ في صباحٍ باكرٍ ونادرٍ من صباحات سياتل. شربتُها، وخرجت من المقهى الذي يقع في الداون تاون لأتصفّحَ المدينة التي أحب للغاية. أتصفّح المدنَ كالكتب. ألفظ فيها خطواتي كما لو كنت ألفظ الكلمة التي أقرؤها في قصيدة بحاجة إلى التأنّي. أطوف شوارعها كما لو كنت أترشّقُ فوق جمل متناسقة. مررتُ من جانب المسرح الضخم والهائل، Benaroya Hall، واجتاحتني نغماتٌ من ‘رقصة الأزهار’، تقدّمها الأوركسترا التي تتدرّب على باليه النتكراكر لتشايكوڤسكي. سرَتْ رعشةٌ في جسدي تشبه الكهرباء، وبات كلّ شيءٍ ورديًا فجأة. تتحرّك رجلاي وتتمايل بخيوطٍ تُحرّكها الكمنجات والنايات التي تندمج واللحن. أتجاوز الشارع الأول راقصًا بهدوء، وتظل الكمنجات في تكرار لنوتة، نوتتين، قبل أن تسكن في الثالثة. تعاود الكرة مرة ومرتين. تذهبُ إحدى رجلاي إلى الأمام، وتراقص أول فتاةٍ تخرج من محلّ نورستروم في النوتة الأولى والثانية، وأسكنُ لوهلةٍ تاركًا الفتاة ذات الرداء الأصفر المشع كالشمس لتدورَ وتطلق إشعاعاتها، قبل أن تقرر الكمنجات أن أقفز بين التكرارات الموسيقية طائرًا إلى الشجرة القريبة والطويلة. أراقبُ قليلاً قبل أن أهبط لأعاود الرقصة ذاتها مع ذات رداءٍ أحمرٍ متوهّجٍ بنيرانٍ تلسعني متلذّذًا، لتدورَ في لحظة سكون الرقصة، قبل أن أعود راكضًا في الطريق واصلاً إلى السوق العمومي الذي يشبه بازار الإمام الرضا.
لم يرضَ تشايكوڤسكي بباليه النتكراكر لسببٍ ما، وهي التي لم تتوقف عن الرنين في أذني عند المسرح الذي حضرتُ فيه أول سمفونية كلاسيكية في حياتي. كان ذلك قبل خمس سنوات، أي أولما حططت رجلاي في الولايات المتحدة. اشتريتُ تذكرةً في الصف العلوي من الجانب الأيسر في المسرح لأحضر الكونشيرتو الثالث لرخمانينوڤ المصاحب للسمفونية الحادية عشرة لشوشتاكوڤتش. كان ليلاً باردًا طويلاً، وماطرًا. ذهبتُ راكبًا باصين لأصل للمسرح في الداونتاون قبل الوقت بعض الشيء. ارتديتُ ‘هودي’ صفراء، وشورت جينز ضيّق؛ إذ لم أبالِ بأمسية رسمية كهذه، معتقدًا أن عدم وجود رفيقة سببٌ كاف لعدم تقيّدي برسمياتٍ لا يلتزم بها الأمريكان أنفسهم. ما لم يمنعني من الانبهار بالفساتين البرّاقة، والبليزرات الجذابة على الشبان ورفيقاتهم.
***
تختلط في داون تاون سياتل رائحة المطر برائحة بول طازج، وبول متخمّرٍ أيضًا، كما يختلط كل ذلك برائحة حشيشٍ مهترئ قديم، وهو ما لم يعد مرفوضًا في أروقة المدينة الأكثر تقدّمية. يقبع فيها الكثير من المشردين الذي لا يتوانون عن ملئها بقذاراتهم على مرأى الجميع. غير أن الرائحة تبدأ بالتغيّر بمجرّد عبور الآي فايڤ، الطريق السريع الفاصل بين الداون تاون الحديث، والقديم المسمى بالـ Capitol Hill. في تلة العاصمة، يمكن استشعار ملامح مختلفة جذريًا عن الداون تاون الحديث، ليست الرائحة وحدها، وهي التي تصبح رائحة حشيش طازج تشبه رائحة النعناع. إذ فورما نفتح فصل الكايبتول هل، تتوهّج ألوان قوس قزح المتعددة في جدرانه، ويتوشّح شوارعه ومبانيه عبارات النضال الأسود، والكويري، والنضال الراقص أيضًا. يمكننا أن نعدّ كايبتول هل التمثّل الأقصى للهوية المتغيّرة في النضال الجنسي، والعرقي، بل والديني، وهي الآخذة في التمدد في العالم. ليست المثليّة، وشعاراتها طبيعيّةً في الكابيتول هل، بل هي موقفٌ صارخٌ بأعلى نبرة، تشبه حالة طوارئ دائمة. ما يتلازم، بالطبع، مع الوقوف بحزمٍ كامل مع المسلمين، لا سيما المحجبات منهم، ومع قضية البلاك لايڤز ماتر وغيرها من قضايا الأقليات.
وعلى ذكر البلاك لايڤز ماتر، ليست الكابيتول هل اعتياديةً على الإطلاق فيما يخص الحراك، وهي المدينة التي لا ترى فيها تواجدًا للبوليس. لم يكن غير الكايبتول هل من مدينةٍ أعلنت استقلالها عن الفيدرالية الأميركية في خضم مظاهرات البلاك لايڤز ماتر في صيف العام الماضي. سيطر المحتجّون على المنطقة الأقرب لقلوبهم، وهم الذي يعيشون وينشطون فيها بشكلٍ يومي سالفٍ للاحتجاجات هذه، قبل أن يعلنوا الأناركية الكاملة تضامنًا مع جورج فلويد. لم تكتمل جنّتهم، والتي كانت تضجُّ بال’پارتينق’، والاحتفاء اليومي بالأجساد السوداء والكويرية، كما أنها خرقت أنظمة السوق بأكل ومشروبات مجانية للجميع على الطريقة الشيوعية.
ليست كابيتول هل اعتياديةً حتى على الرغم من حلّ رغد الأناركية بعد أيام قليلة من قيامها. إذ ما زالت مستقلّةً بالمعنى الرمزي والناعم. لا وجود للأمن والبوليس في الكابيتول هل. يرفض قاطنوها أي وجود للسلاح فيها، ما تتعاون معه الدولة بدرجةٍ ما. لم أمرّ من هناك إلا وتحولت الشوارع لقاعات پارتيات مفتوحة على مصراعيها، بالشراب والرقص والتعري في الشوارع.
ليست المنطقة، والتي درستُ فيها أول أشهري في الولايات المتحدة، طبيعيّةً. ما زالت في حالة تأهب وخوف مستمر من الدولة ومن قمع الناس الطبيعيين. إذ يُمكن بوضوح أن نرى أنها جنة مؤقتة، غريبة عن إطارها ومحيطها، بمجرد ما نخرج منها مسافة ميل واحد إلى الداون تاون، والذي يعود بديكتاتورية الطبيعي وشكله واعتياديته. ما زالت المنطقة، والتي أشعلت تفكيري قبل سنوات، تشعل نيرانًا متوقدة للتفكير والتأمل.
صاخبةٌ هي الشوارع بأغاني الراب التي لا يُمكن إلا وأن تمتدّ خيوطها لتلعب برجليك هي الأخرى، ولو بعض الشيء. لا شيء يوازي تشايكوڤسكي طبعًا. تمتدّ طوابير البارات، ومحال الآيسكريم، لتغلق الشوارع التي يمتلكها سكان الحي ولا تمتكلها الدولة. تمتد الطوابير الملوّنة بالفساتين الصفر والخضر، وباللافساتين أيضًا، إذ لا تضجّ أي شوارع بالأجساد في أي مكان كما تضج شوارع منطقة الكابيتول هل.
أخترق الجموع وحيدًا، بشورتي الأخضر وتيشرتي الأسود الفضائي، ولا يراني أحد. مخفيٌّ يخترق الأجساد الراقصة والمنتظرة لآيسكريمها، وأغنيتها التي لا يمكن أن تبث في أي لحظة، وتلفّني الحسرة الأولى. حسرة المكتشف والفضولي، وهي التي يبدو أنها ستبقى أبديّة…