الترجمة والقارئ الحديث: “وقت المياه، وقت الأشجار” أنموذجًا
مقدمة
في رحلة غير مخطط لها لإحدى المدن القريبة هنا في الشمال الغربي من الولايات المتحدة، وقعت يدي بإحدى المكتبات على الأعمال الكاملة للشاعرة الأمريكية آن سكستون. لم أسمع باسمها من قبل، ولم يبد لي وقتها أنني سمعت اسمها في أي مكان آخر. غير أن ديوانًا ضخمًا وحيدًا في المكتبة معنونًا بـ”القصائد الكاملة”، وبصفحات تتجاوز الخمس مئة، أجبرني على الاطلاع قليلاً على الشعر الذي ببطنه. أبهرتني القصيدتان اللتان قرأتهما واقفًا، مما أجبرني على اقتناء الديوان والسهر في تلك الليلة الماطرة على قراءة جزء كبير منه. لم أفرغ من قراءة بعض الديوان إلا والفضول قد اجتاحني لمعرفة ما إذا كانت أعمال آن مترجمةً للعربية أم أنها ما تزال بعيدة عن العالم العربي. أوصلني ذلك في نهاية الأمر للعثور على مختارات المترجم سامر أبو هواش من الأعمال الكاملة نفسها، والصادرة عن دار الجمل بعنوان “وقت المياه، وقت الأشجار”. ما حدث بعدها هو القراءة المزدوجة للنص وترجمته. ليست المرة الأولى التي أقارن فيها النص الأصلي بترجمته، إلا أنها المرة الأولى التي أشعر بانفعال سلبي تجاه الترجمة. يرجع ذلك إلى حقيقة أن النص المعاين هو نص شعري بلغة حديثة.
تبدو لي الدلالة المتعددة -المرتبطة بالنص الشعري خصوصًا- إحدى أهم سمات الحداثة الشعرية بشكل عام. ينفصل النص عن الإنسان ويبقى بذاته ليتخذ شكل اللانهاية في الدلالة واللاحصر المرتبطين بلحظة الإنتاج بالضرورة. هو النص الحديث الذي أرى أن آن سكستون وغيرها من شعراء الحداثة يحاولون كتابته. أعتقد أنها مهما كانت خيانة للنص الأصلي، لا بد أن تحرص الترجمة على تعددية النص واستقلاليته، حتى وإن كانت ضحية ونتيجة ضرورية لفهم وتفسير المترجم في كثير من الأحيان. من هذا المنطلق، يمكن ان نرى هذه التعددية الدلالية -والتي لا يمكن حتى للكاتب نفسه أن يتعدى عليها بعد انفصال النص المكتوب عنه- ضحيةّ للمترجم في مواقع كثيرة، ناهيك عن الأخطاء الواضحة التي تسطع بوضوح في الشعر على وجه الخصوص، إذ تشكّل كل عبارة منه وكل حرف فيه فارقًا ضخمًا في الوقع والشكل والمعنى في الآن نفسه. هذا ما ستحاول هذه التدوينة الحديث عنه، وذلك في جزئين: الأول حديث عن الترجمة بالعموم من منطلق ذاتي لي كقارئ باللغتين، والثاني نقد لترجمة سامر أبو هوّاش لقصيدة “Music swims back to me”، والتي ترجمها بعنوان “تطفو الموسيقى عائدةً إلي” في ديوان “وقت المياه، وقت الأشجار”، باعتبار ترجمة القصيدة نموذجًا لما سيتم الحديث عنه في الجزء الأول.
الترجمة لقارئ باللغتين، مقابل القارئ باللغة الواحدة
لا يعني فعل الترجمة الكثير إن لم يكن موجّهًا لقارئ لا يمكنه أن يقرأ اللغة المُترجَمة. يمكن تعريف فعل الترجمة على أنه نقل نص من ثقافة إلى أخرى لا يمكنها أن تطلع على النص بلغته الأصلية، ويحمل قيمته في هذا الإطار. من هذا المنطلق، لا يُمكن للقارئ العربي غير المتقن للغة أخرى مثلاً، أن يعاين جودة ترجمةٍ إلا من حيث سلامة اللغة العربية وحسب. لا تمكن معاينة دقة الترجمة، تناصها وتفسيرها، وبالتالي تقييمها إلا من خلال قراءة النص باللغتين، وذلك ما يسلب الترجمة معناها. ولهذا نجد المعضلة موجودةً دائمًا: فعل الترجمة فعل سلطوي بالتعريف. يقع القارئ هنا تحت أخطاء المترجم التقديرية في الترجمة، أو تحت ضعف إحدى لغتيه أو كلتاهما، أو ربما يقع ضحية تلاعبه واستهتاره في ترجمة النص، وقد لا يقع. كل ما يعنيه هذا أن القارئ أحادي اللغة غير قادر على أن يتجاوز هذه السلطة الأدبية والقرائية –الأفقية—إلا من حيث حكمه على سلامة اللغة وحدها، وهذا بكل تأكيد غير كافٍ لتقييم جودة الترجمة. غير أن القارئ هنا أيضًا ضحيةُ أمرٍ أهم من كل هذا، فهو ضحيةٌ للطرق الخاطئة للترجمة. أعدّ ترجمة الشعر بالخصوص -والنص الأدبي بالعموم- وفقًا لفهم “معاني” النص، أشنع تلك الطرق الخاطئة، وذلك ما سأبينه عند نقد القصيدة. ولكن ما يشغلني الآن هو هذه المعضلة بحد ذاتها.
مجددًّا، قد تكون معضلةً غير ممكنة الحل باعتبارها ناتجة عن عملية الترجمة بذاتها. غير أن من الممكن تقديم ما يشبه الحل، وذلك عبر تعلّم القارئ للغةٍ أخرى ببساطة. لست أقصد بهذا أن حل مشكلة الترجمة إلغاؤها وتعلم كل لغات العالم، حيث أن هذا ليس حلاً للمشكلة بقدر ما هو هروب منها أساسًا، بالإضافة لاستحالته أصلًا. وإلى جوار ذلك، أصرف النظر مؤقتًا عن كون تعلّم القارئ لعدة لغات والقراءة بها أمرًا جيدًا بذاته. ما أقصده بحديثي هو التأكيد على عدم ارتهان تقييم الترجمة بعدد محدود من القرّاء باللغتين. كلما زاد عدد القرّاء ضعفت سلطة الترجمة وتخلخلت لحدّ ما. وكلما ازداد عدد القراء، ازداد عدد الترجمات للعمل الواحد بالضرورة.
لا تُحل المعضلة تمامًا هكذا، غير أن ضررها يقل. وفي حال المنافسة لا يُمكن للترجمة الأضعف أن تبقى في خضم الصراع، كما أن “مراجعة الأقران” هنا تسلك مجراها بسلطة أقل، وبشللية أقل – وبالتالي بمصداقية أكبر- مما يساعد القارئ باللغة الواحدة على الاطمئنان إلى حد ما.
يحاول النقد في الجزء القادم من التدوينة حل المشكلة من الجهتين: أي أنني قارئ باللغتين، وفي الوقت ذاته حاولت تقديم ترجمة بديلة للقصيدة المختارة عبر تبيان فوارق الترجمتين ومقارنتهما بالنص الأصلي لقارئ الانجليزية والعربية للتقييم. لا يمكن نقد الترجمة إلا من خلال الانحياز إلى ترجمة أخرى. قد تكون سيئة هي الأخرى بالطبع، ولا أظن بدائية لغة الترجمة الجديدة ستخفى على القارئ، غير أن وجودها ضروري من أجل توضيح النقاط التي تنتقدها هذه التدوينة في ترجمة سامر أبو هواش. من هذا المنطلق، للقارئ بالعربية فقط –عمومًا—قدرة في معاينة الفروقات في نص قصير كالذي سيُعرض، وذلك ما سيساعد هذه المراجعة إلى حد ما في فهم الأخطاء المنهجية في الترجمة، والتي أحاول أن أبينها في ما يلي.
هل “تطفو” الموسيقى، أم أنها “تسبح” عائدةً إلى آن سكستون؟
الصراع بين الترجمتين الحرفية والتأويلية طويلٌ مجملًا. لا تحاول ترجمتي حل هذه المعضلة أو حسم الصراع ضد الترجمة التأويلية أو التفسيرية للمترجم. أقر هنا بضرورة التأويل والنقل المغايِر المتناسب مع اللغة غير الأصلية للنص في كثير من الأحيان، وإلا لفقد النص معناه. يحضرني مثال بارز في محاولة فهم “روح” اللغة. فقد يصعب إيجاد مرادفٍ دقيق لمفردة relief في اللغة الانجليزية دون الاستعانة بعبارات من قبيل “أثلجت صدري” ، والتي قد توصل الإحساس ذاته. ولأنها تحتمل دلالات عديدةٍ، فقد لا يحق للمترجم تعيين أحدها إلا في حالة الاضطرار، وهذا الاضطرار إحدى الحالات التي تُعتبرُ خيانة لا مفر منها للنص، وهي أفضل الخيارات السيئة.
ما سيوضحه النقد التالي هو أن ترجمة سامر أبو هواش ليست مضطرة أبدًا، بل هي غير دقيقة بتاتًا. قد تعني ضعفًا في اللغة الانجليزية أو العربية، وقد تعني تلاعبًا في المعنى دون وجه حق. ذلك ما يجعل من هو مثلي يشك في كل ترجمة تتبع فكرة “التفسير” التي تحاول أن تشعرن النص في اللغة العربية، وتكتب نصًا جديدًا قد لا تكون له علاقة بالنص الأصلي. النقد هنا في جوهره نقدٌ للطريقة التي يتبعها سامر أبو هواش في قراءته للنص الأدبي عمومًا، وهي الطريقة التي تنتج ترجمة مثل ترجمته. أرى شخصيًا أن هذه تقليديةً وأحادية في فهم النصوص الأدبية، وقد لا يكون لها علاقة مباشرة بالترجمة إلا من حيث أن الترجمة نتيجة لها. ما تريد هذه التدوينة الوصول إليه هو ماهية النص الأدبي متعدد التأويلات وغير الأحادي، ولا تستهدف نقد ترجمة سامر أبو هواش إلا في كونها أنموذجًا مناسبًا لتناول الأفكار المطروحة.
يحاول النقد أن يعاين أربعة أخطاء نوعية، أي أربعة أنواع من الأخطاء التي يمكن للقارئ معاينتها. سأقوم بذلك عبر اختيار عبارات أجدها تمثّل أهم الأخطاء النوعية في القصيدة، والتي بدورها تحمل أعدادًا كبيرة من الأخطاء ضمن هذه الأنواع الأربعة، ومن هنا ننتقل للنقد مباشرة.
تعنون آن سكستون قصيدتها الإنجليزية بالعبارة التالية:
“Music swims back to me”
ويترجمها أبو هواش بعبارة:
“تطفو الموسيقى عائدةً إلي”
أحاول في العنوان أن أشير إلى المشكلة الأولى التي أجدها في ترجمة أبو هواش، وهي التقاط أحد المعاني وسلب اللفظ أفقه بترجمة خاطئة. ما يُمكن للقارئ أن يلاحظه في هذه الترجمة أن ترجمة swims المباشِرة هي “تسبح” وليست “تطفو”. الفرق بين المفردتين شاسع. أولى التبريرات التي تراودني هي أن المترجم يرى أن “تطفو” أدق في إيصال المعنى إلى القارئ، أي أن swims تدل على معنىً أقرب لـ”تطفو” من “تسبح”، وأنها أكثر شاعريةً كذلك. أرى في هذا الأمر تعدّيًا على النص بمبرر واهٍ لا يُمكن القبول به. تحمل “تسبح” هنا دلالاتٍ أوسع من “تطفو”، فهي قد تعني الطفو وقد تعني العوم وقد تعني غيرهما، كما أنها قد تعني كلاهما وما دونهما بالمجمل من دلالاتٍ قد تُحيل إليها اللفظة. ما يمكن التأكيد عليه هو أنها لا تعني الطفو وحده من السباحة، وأن المترجم تعدى على حق القارئ في تأويل العبارة، كما أنه تعدى على النص في تعدديته. بغض النظر عن حقيقة أن سياق القصيدة عند قراءتها يُحيل إلى معانٍ من الأرجح أنها لا تتسق مع الطفو أصلاً.
عبارة أخرى:
“They turned the light out
and the dark is moving in the corner.”
ويترجمها أبو هواش:
“قد غابت الأنوار والظلمة في الزاوية احتشدت.”
والمشكلة التي نراها هنا مشابهة للمشكلة الأولى، وهي صادرة من نفس المنهجية. تكمن المشكلة في حذف مكوّن رئيسي للجملة بناء على تفسير وفهم وحيدين. الفارق بين النص الأصلي والنص المترجم هنا هو أن الشاعرة وضعت they كلفظة واضحة تدل على فعل فاعل أدى إلى غياب أو انطفاء النور، وليس غياب الأنوار كما لو أنها غابت بنفسها. والتساؤل الذي أطرحه هنا كقارئ، ويحق لأي قارئ أن يتساءله مثلي: ما هي الضرورة التي اقتضت إلغاء الفاعل هذا، والذي يتبيّن في النص الأصلي للشاعرة أنها أكدت على وجوده في نص قصير مكثف كهذا النص؟ إلى أي درجة من الممكن أن يكون هذا الفاعل مفتاحًا لفهم القصيدة، أو دالاً على فهمٍ من الأفهام المتعددة التي يتيحها النص؟ لا أجد جوابًا سوى أنه سوء تقدير لكل لفظة وما يمكن لها أن تبوح به من دلالات متعددة. أو ربما، اعتداد عال بفهم واحد يقصي الأفهام الأخرى، يظن أن الفاعل هنا غير ضروري، وذلك ما لا أجد أن للمترجم حق في ذلك، ناهيك عن عدم وجود ضرورة تقتضي هذا الحذف.
في الجملة ذاتها، يترجم أبو هواش moving in the corner بـ “في الزاوية احتشدت”. اختار أبو هواش لفظة “احتشدت”، ولم يختر “تتحرّك”، وهي ما تحيل إليه لفظة moving في الترجمة الحرفية. الفوارق هنا شاسعة وكارثية: بدّل المترجم زمن الفعل من مضارع إلى ماض، كما أنه غيّر “الحركة” إلى “الاحتشاد”، دون أن ينتبه إلى حقيقة أن آن سكستون في هذه اللفظة كانت تحاول أن تقوم بلعبة لفظية. تتحرك الأشياء عادةً في الظلمة، في حين أن شاعرية آن ساكستون كانت ترى الظلمة هي من تتحرك في الزاوية. لا تحتشد الأشياء في الظلمة، بل هي تتحرك وتحرّكها يختلف عن احتشادها. تحيل لفظة الاحتشاد إلى أشياء كثيرة ليست إحداها هذه اللعبة اللغوية التي لا يمكن تجاهلها في النص، ولا يدل ذلك سوى على غياب للقراءة الشاعرية.
عبارة أخرى تحيل إلى مشكلة جديدة:
“They lock me in this chair at eight a.m.”
ويترجمها:
“في الثامنة صباحًا قيدوني إلى كرسي”
وما يُمكن أن نستنتجه هنا من النص أن المشكلة مشكلة عدم مراجعة وتدقيق. عبارة lock هي فعل حاضر من “التقييد”. في حين أن locked هو الفعل الماض منه، والذي من الممكن أن تتم ترجمته بـ”قيدوني”، في حين أن الأصح هو “يقيدوني” كما يشير النص. الفرق هنا جوهري، أي أن الفعل الماضي في القصيدة قد يشير إلى حالة محددة في وقت محدد. في حين أن الفعل الحاضر يشير إلى حالة مستمرة غير منقطعة، أي أنها استمرت وما تزال. أو من الممكن أن تدل اللفظة على إمكانية استمرارها. الفارق هنا شاسع، ويغيّر من بنية القصيدة تغييرًا شاملاً. لا يُمكن لمشكلة نحوية واضحة بهذا الوضوح، أن ترضي القارئ الفاحص. هي بكل تأكيد تؤدي إلى انعدام ثقة بالترجمة، وبالتالي إلى انعدام ثقة بفهم أي شيء من النص أصلاً. الخطأ في هذه العبارة هو نفسه في عبارة “احتشدت” التي تسبقها، كما أنها تتكرر في مواقع مختلفة من النص.
وهنا العبارة الأهم في القصيدة، والتي دفعتني لكتابة التدوينة بعد أكثر من شهر من امتعاضي من الترجمة:
“and that moon too bright
forking through the bars to stick me
with a singing in the head.”
ويترجمها أبو هواش:
“وذلك القمر الساطع
حاول اختراق القضبان لكي يغرز
أغنية في رأسي.”
والمشكلة الأهم التي من الممكن ملاحظتها هنا هي انعدام فهم شاعرية النص، وعدم القدرة على مجاراته، بمسمى الترجمة بالفهم والتأويل. قد يكون الحكم هنا قاسيًا، إلا أني أراه واقعيًا وبدرجة عالية، وذلك ما سأبرره في الآتي. ما يُمكن ملاحظته في الترجمة هو خلوها من التعبير عن درجة سطوع القمر، والتي هي في المقابل موجودة بوضوح في النص الأصلي عبر مفردة too. ما يُمكن التأكيد عليه هنا أن هذا التعبير هو تعبير خاص باللغة الانجليزية، وقد تكون ترجمتها إلى العربية من أصعب التحديات التي تواجه المترجم الذي يحاول الحفاظ على شاعرية النص. مع ذلك، اختار المترجم هنا تجاهل هذه العبارة تمامًا هروبًا من صعوبتها بدلاً من البحث عن تعبير شاعري يقابلها. ليست هذه المشكلة الأكبر في العبارة –والتي تتكرر كثيرًا في بقية قصائد الديوان- بل هناك ما هو أعظم منها: يترجم أبو هواش forking بعبارة “حاول اختراق”. تبدو هذه العبارة بالنسبة لي أكبر مأساة تبديها هذه الترجمة المؤسفة. وضع كلمة forking في أي معجم سيحيل إلى عبارة “التفرع”. كما أن معجم أوكسفورد بالانجليزية يدل على ذلك بوضوح، ويربط بين العبارة التي تُذكّر بشوكة الأكل والمعنى بشكل مباشر. ليست المشكلة هنا في الدقة، فلا ضير من اختيار المترجم لعبارة يراها أكثر شاعريةً وتحيل لنفس المعنى –وهذا لو افترضنا جدلاً أن هذا مقبول–. بل المشكلة هي أن المترجم نفسه اختار عبارة “يغرز” بعدها مباشرةً، دون أن يرى الربط الواضح والصريح بين المعنى الحرفي لـ”التفرّع”، المرتبط بالشوكة، وبين الغرز. وهنا لا أجد ضرورةً تقتضي هذا الاستبدال للكلمة بـ”حاول اختراق” سوى أنها ضعف صريح وواضح في القراءة النقدية للنص، وتكبّرٌ عليه. وإن لم يكن كذلك، وكان رأيًا بأن “التفرّع” لا يُحيل إلى الربط بشوكة الأكل كما تحيل forking، فـ”حاول اختراق” بكل تأكيد لا تُحيل إلى هذا الربط أكثر من “التفرّع”، أو ربما كلمة أخرى أقرب للمعنى منها.
في الختام:
يحوي هذا النقد آراءً منحازة بوضوح إلى الترجمة الحرفية للنص أكثر من الترجمة التي تريد أن تصل إلى روحه. لا أرى أنه من حق المترجم أن يدعي وصوله إلى روح النص. كل ما يمكننا أن نصل إليه هو هذا السطح المتعدد والواسع للغة وحدها، وذلك ما يُمكن للترجمة الدقيقة أن تقدمه. كما يمكن للقارئ هنا أن يلحظ أن هذا النقد ينحاز إلى ترجمة بديلة، وبالتالي تفسير بديل للترجمة القائمة على تفسير آخر، وهي ادلاء رأي صريح بفشل التفسير الأول، وذلك ما لا أنفيه هنا. لا تنحصر الملاحظات على القصيدة على هذه الملاحظات الأربع، بل هي أكثر. ذلك كما أنها لا تنحصر على هذه القصيدة من الديوان فقط. كل ما تحاول فعله هذه التدوينة هي فهم ماهية النص وقدسية اللغة، أو محاولة فهم ذلك. كما أنها تمحيص لواقع سيئ للترجمات العربية والذي أرى أنه من الممكن أن يكون أفضل مما هو عليه. وباعتبارها نتيجة طبيعية لتفسير مغايِر، فقد تكون بدايةً لمحاولات –في بداياتها ستكون فاشلةً بالتأكيد—في محاولة لاستبدال ما أراه سيئًا. قد تكون محاولةً أسوأ طبعًا، إلا أنها ضرورية لملء الفراغ، وإن بقصيدة أو اثنتين.
هنا النص الأصلي، وترجمة سامر أبو هواش، تليها الترجمة الجديدة الناتجة من النقد.
“Music Swims Back to Me
Wait Mister. Which way is home?
They turned the light out
and the dark is moving in the corner.
There are no sign posts in this room,
four ladies, over eighty,
in diapers every one of them.
La la la, Oh music swims back to me
and I can feel the tune they played
the night they left me
in this private institution on a hill.
Imagine it. A radio playing
and everyone here was crazy.
I liked it and danced in a circle.
Music pours over the sense
and in a funny way
music sees more than I.
I mean it remembers better;
remembers the first night here.
It was the strangled cold of November;
even the stars were strapped in the sky
and that moon too bright
forking through the bars to stick me
with a singing in the head.
I have forgotten the rest.
They lock me in this chair at eight a.m.
and there are no signs to tell the way,
just the radio beating to itself
and the song that remembers
more than I. Oh, la la la,
this music swims back to me.
The night I came I danced a circle
and was not afraid.
Mister?”
ترجمة سامر أبو هواش:
” تطفو الموسيقى عائدةً إلي
عفوًا أيها السيد
هلا دللتني على طريق البيت؟
قد غابت الأنوار والظلمة في الزاوية احتشدت.
وليس من إشارات مرورية في هذه الحجرة،
لا أرى سوى أربع سيدات بالحضفاظات تخطّين
الثمانين.
((ترا لا لا، ترا لا لا))، آه الموسيقى تطفو عائدةً إلي
وها أنا أتذكر لحنًا سمعته
ليلة تركوني هنا
في هذا المشفى أعلى الهضبة.
تخيّل: صوت المذياع العالي
والسعار الذي أصاب الجميع
وكيف جعلتُ أرقص في دائرة.
عجبا للموسيقى تنهمر على الحواس
وتبصر أكثر مني
أعني أكثر مني تتذكر
أول لياليّ هنا.
كان برد نوفمبر القاتل
وحتى نجوم السماء تجلدت
وذلك القمر الساطع
حاول اختراق القضبان لكي يغرز
أغنية في رأسي.
سوى ذلك نسيت كل شيء.
في الثامنة صباحا قيدوني إلى كرسي
بلا إشارات تدلني إلى الطريق،
لم يكن سوى المذياع
وتلك الأغنية التي تتذكر أكثر مني.
آه، ((ترا لا لا، ترا لا لا))،
تطفو الموسيقى عائدة إلي.
ليلة وصولي رقصتُ في دوائر
ولم أكن خائفة.
أتسمع أيها السيد؟“
الترجمة الجديدة:
تسبح الموسيقى عائدة إلي
انتظر أيها السيد. في أي الطرق المنزل؟
أطفؤوا الأنوار
وفي الزاوية يتحرك الظلام.
لا إشارات لوحية في هذه الغرفة،
أربعة نسوةٍ، تعدّين الثمانين،
في الحفاظات كل واحدة منهن.
لالّا لالّا، تسبح الموسيقى عائدة إلي
ويمكنني أن أشعر بالنغمة التي أطلقوها
ليلةَ تركوني
في هذه المؤسسة الخاصة، أعلى التل.
تخيل. يتدفق صوت المذياع
وكل من هنا كان في حالة جنون.
أعجبني ذلك ورقصت في دائرة.
على الحسّ تنسكب الموسيقى
وبطريقة ممتعة
تبصر الموسيقى أكثر مني.
أعني أنها تتذكر أكثر،
تتذكر الليلة الأولى هنا.
كان برد نوفمبر المختنق،
حتى الأنجم كانت مربّطةً في السماء
وذلك القمر المضيء جدًا
تفرّع ليغدو شوكةً تعبر القضبان لتغرزني
بغناء في الرأس.
نسيت كل ما هو سوى ذلك.
يقيّدوني إلى هذا الكرسي في الثامنة صباحًا.
وليس هنالك أي إشارة لتدل على الطريق،
فقط المذياع يونّ لنفسه
والأغنية التي تتذكّر
أكثر مني. لالّا لالّا،
تسبحُ إليّ عائدةً هذه الموسيقى.
رقصتُ في دائرةٍ ليلةَ جئت
ولم أكن خائفة.
أيها السيد؟