من الصعب جدًا، حينما يتم الحديث عن الوعي بالذات، أو ما يسميه ألبرتو موراڤيا مثلاً، “الانتباه”، من الصعب حينما يتم الحديث عن ذلك أن نتجاهل حقيقة أنّنا جميعًا غير واعين وغير منتبهين لذواتنا ولما حولنا، في معظم الأحيان. سيرورة الحياة هذه، والتي قد تكون في معظمها مجرّد تمضية للوقت، مهما خلقنا فيها أسبابًا وغايات نمضي وقتنا في الجري وراءها، سيرورة هذه الحياة تقضي وتحتّم أن نتفاعل مع هذه الحياة بتلقائية لا واعية. قد نسميها تارةً “عفويّة”، وتارة أخرى “انسيابية”، في محاولة للالتفاف حول حقيقة أنّها تلقائية لاواعية.
إلا أنّه في الوقت نفسه، لا يُمكن أن نتناسى أيضًا لحظات الفراغ والتفكير الطاحن، والتي تبعث علينا بالتفكير عن المعنى والجدوى في الأحداث اليومية بصورةٍ متكررة بين فترةٍ وأخرى. تلك اللحظات التي تبعث عليك بالوقوف كثيرًا أو قليلاً أمام هذه الأحداث، متحدّيًا كل التلقائية التي تحاول فرضها عليك، خالقًا قراراتك بأسلوب أو آخر. وهي الحالة التي يسميها موراڤيا مجددًا، الخروح من اللانتباه إلى الانتباه.
أدّعي أن التواصل الاجتماعي هو المساهم الأول، والمرسّخ لهذه التلقائية اللاواعية، حيث التواجد مع الآخرين، ومع الجمع، يفرض عليك أن تكون مشغولاً ذهنيًا بهم، وبالتالي بالتفاعل “معهم”، وذلك ما ينفي المعادلة الأولى والقائمة على الحساسية العالية بالذات أولاً قبل الحساسية العالية بالآخرين.
ولذا هنا قد نجد الحساسية العالية بالذات هذه، والتي تخلق تفردًا على مستوى الأفراد ولدرجةٍ بعيدة، نجدها في المجتمعات الفردانية في المقام الأول، في مقابل انغماس كبير جدًا في التلقائية في المجتمعات غير الفردانية. والتي تعني في حالاتٍ كثيرة أن الإحساس بالذات هذا يقتضي عزلةً لدرجةٍ ما في غير المجتمعات الفردانية.
عمومًا، بغض النظر عن ذلك، سواءً في المجتمعات الفردانية أم غيرها، قد تكون شبكات التواصل الاجتماعي اليوم هي العائق الأكبر في مقابل الوعي بالذات ذلك، بل وربما حتى الوعي باللحظة، بغض النظر عن الذات وعن ما حولها. الهاتف الذكي اليوم ينزع الإنسان عن لحظته الراهنة، ويخرجه عمّا يعيشه فعلاً في الواقع، ليعيش في مكانٍ آخر تمامًا، ومع أناس آخرين تمامًا.
تخيّل مثلاً، وذلك يحدث فعلاً، أن تمشي عند شاطئ وحيدًا وتتلقى مكالمةً تلفونية وتتحدث أمام الشاطئ في جوٍ عليلٍ أو حتى حار، مع هذا الآخر الذي لا يقف بجانبك ولا يشعر بالجو، ولا يرى البحر ولا يعيش ما تعيش أبدًا، يعني أنك لم تكن موجودًا في أي مكان، لا أمام البحر ولا مع من تتحدث معه، بل أنت في المحادثة المجرّدة هذه من الحياة الحقيقية. أو أن تتلقى رسالةً واتسابية تعكّر الوقوف أمام الشاطئ تمامًا، وكأن خللاً حدث في هذه الحياة، قاطع خلوّك وإحساسك -الممكن- بذاتك وبالبحر. الهاتف هنا هو إلغاء للزمان والمكان، بطريقةٍ أو بأخرى. هو خروج عن السياق، وبالتالي تعطيل للانتباه والحساسية العالية بالذات هذه.
من هذا المنطلق، قد يكون أهم ما حدث أو تم تنفيذه في ٢٠١٧ بالنسبة لي هو ضعف علاقتي بالهاتف وبما يوفّره من شبكات تواصل. على الرغم من سلبيّات هذا الحدث، أو القرار غير المقصود بشكل تام، والتي أتت وما زالت تأتي بمشاكل هنا أو هناك، باعتبار أنّ التعاطي مع الحياة دون هذا الهاتف هو خروج على السياق العام للمجتمعات الحديثة، إلا أنّ ضعف العلاقة بالهاتف هذا ساهم، حتمًا، وإلى حدٍ كبير، في مفاقمة الحساسية بالذات هذه إلى درجة بعيدة، بل وربما مخيفة أيضًا…
كيف يبدو الأمر الآن بعد مرور عام تقريبًا؟
لا يبدو مختلفًا كثيرًا سوى أنّ الحياة غالبًا ما تكون أقوى منك ومن معظم محاولاتك..
السؤال مهم جدا حقيقة، ما راجعت نفسي بناء على التدوينة، ولا أعرف لمَ شعرت بأنّي نسيتها رغم قربها وتعبيرها عني بشكل حقيقي…
لفتني تشديدك على الراهن والمباشر والحسّي بوصفه حقيقة، في مقابل البعد الافتراضي الذي يبدو أشد تفلّتًا ولا يسهل تحديده.
ممكن ما تتمثل المشكلة -إن كانت مشكلة فعلًا- إضعاف اتصالنا بالعالم الحسّي المباشر في كوننا نصبح منبتّين عن هالعالم، لكن في الزخم كل هالصور والمشاعر والمعلومات، زخم كمي لا كيفي. بدلا عن انفتاحنا على بعد مكاني وزماني واحد، ننفتح على أماكن وأزمنة متعددة، وجودنا فيها عصبي أو ذهني -وهو وجود لا يمكن إلغاء أهميته باعتبار تداعياته النفسية والجسدية-، لكنه ممكن يفتح أسئلة جديدة عن الوجود والحضور ما زلنا نتقصى ملامحها.