مقدمة لا بد منها
نتجاهل، نحن محبو الرياضة عمومًا، حقيقة مهمة لا يمكن لنا أن نغفلها على الإطلاق. وهي أن الرياضة اليوم في جزئها الأكبر والأعم، والذي يتجاوز السياق السعودي والعربي، تكاد أن تكون مستحيلةً دون أن تخضع لمنطق السوق. بل، ولأن الرياضة تأخذ حجمها من الجمهور أولاً وأخيرًا، يُمكن القول عنها أنها هي ناتج طبيعي لمنطق السوق بدرجة كبيرة في ظل هذا العصر الذي يتحكم منطق السوق بجميع مفاصله الأخرى أصلاً. لا يُمكن لأي لعبة أن تكون مستدامة بشكلٍ فعّال، وأن تعيد إنتاج نفسها -من دون دعم خارجي له غاياته وأجندته التي تتجاوز اللعبة بذاتها طبعًا- إن لم تكن تعيل المشتغلين في الألعاب أنفسهم، ابتداءً من اللاعب الذي يحتاج مبررًا ماديًا لاستمراره في التدريب وبذل الوقت والجهد في ذلك منذ الصغر، ووصولاً إلى المسؤول في قمة هرم الألعاب نفسها والذي يبذل شيئًا شبيهًا بذلك أيضًا. غير أن ما يُمكّننا، بالتالي، من محاولة قراءة الرياضة وما يختص بها بنظرة فاحصة ناقدة وواقعية يمكن لها أن تتحدى منطق السوق نفسه وتتحدى مآلاته التي تسلّع الإنسان بمجمله وتسلّع الرياضة تحديدًا، ما يمكّننا من كل ذلك هو الإقرار بحقيقة طغيان وتمكّن منطق السوق عالميًا من الرياضة ككل، بل وأن الرياضة بشكلها الترفيهي للجمهور الذي نعرفه اليوم هي نتيجة له أيضًا.
وأجد أن هذا الإقرار بالحقيقة المرّة التي تجرّد هواياتنا وتفضيلاتنا الرياضية من قيمتها الذاتية لتنزلها لمنطق السوق والاستهلاك يدفعنا بالضرورة إلى البحث بدرجة أو بأخرى عن الحالات المتعددة التي وجدنا أننا نحن والرياضة نتحدى منطق السوق فيها. أجد أن في الرياضة، كما في كثير من النواحي التي يحكمها منطق السوق، بذرات حقيقية يكمن في جوهر تطوّرها الطبيعي مقاومة لمنطق السوق نفسه. وذلك ما يحتاج، من أجل إثباته -وربما فهمه بدرجة دقيقة- إلى تقصٍّ كميّ وتتبع دقيق للألعاب المتعددة والدول المتعددة التي تختلف أنظمتها الاقتصادية ودعمها للألعاب المختلفة بالدرجة والنوع. إذ كما أنه من الممكن تخيّل عالم بهيمنة أقل لرأس المال عبر فهم الهوامش والتجارب المتعددة، يُمكن تخيّل رياضة أكثر تحررًا من منطق السوق الحالي عبر فهم الهوامش الرياضية والتجارب المتعددة التي قد لا تكون بالضرورة هي محط معظم الأنظار، كما هي كرة القدم في أوروبا وكرة السلة في أميركا مثلاً أو حتى التنس الأرضي.
لهذا تمامًا أجد أنه من الممكن أن يكون نادٍ مثل نادي الخليج في سيهات نموذجًا مهمًا لتقديم تنظير يُمكن لنا أن نقول عنه تأملات جادة فيما يخص الرياضة ومنطق السوق. إذ يُمكن القول أن حالة نادي الخليج حالة خاصة للغاية. فبالإضافة إلى أن الرياضة السعودية ككل تعيش حالة انتقالية عبر ضخ رأس مال استثنائي فيها من قبل الدولة في محاولة لتحريك السوق الرياضي ككل، بالإضافة لذلك هو النادي الوحيد في المملكة الذي يتواجد في الدوري الممتاز في كرة القدم في الوقت ذاته الذي لا تكون كرة القدم اللعبة الجماهيرية الأولى للنادي فيه. تحتل كرة اليد المساحة الأوسع من قلوب جماهير المدينة الصغيرة سيهات، وهم الذين يحبون النادي لدواعي عديدة، أحد أهمها دواعي مناطقية، يُعلون من خلالها منطق المجتمع الصغير المترابط، وذلك ما يجعل من انتمائهم للنادي تمظهرًا لانتمائهم للمدينة الصغيرة. في هذه الحالة الانتقالية الرأسمالية لنادي مثل الخليج بالذات، ومن خلال ارتباطه بلعبة لا تخضع لمنطق السوق كما تخضع له ألعاب أخرى، أحاول أن أقدّم تحديًا نقديًا لمنطق السوق. ذلك ما سأحاول توضيحه في هذه المقالة عبر العودة لأفكار تحدثت عنها في مقالة سابقة أولاً، مراجعتها ونقدها، والبناء على ذلك في ظل الحالة الانتقالية الحالية.
الجزء الأول من “الخليج.. وهم الإنجاز”
كتبتُ المقالة التي عنونتها بعنوان هذه الفقرة، “الخليج.. وهم الإنجاز.” في نهاية عام ٢٠١٥، وهو العام الذي حقق فيه نادي الخليج أهم إنجازاته في كرة القدم تقريبًا: البقاء في الدوري الممتاز بعد الصعود، ما لم يتحقق من قبل. حاولت فيها، على الرغم من العنوان الفلاشي والمثير للجدل ذاك أن أقدّم ملاحظات تنظيرية لنموذج النادي الرياضي المثالي الذي كنت أدعو إليه. وكنت أراه في المقالة تلك مؤسسة اجتماعية مدنية تتجاوز دورها الرياضي المتمثّل بتحقيق الألقاب، بل يقع على عاتقها مسؤولية اجتماعية وثقافية، تتمثل في احتواء الشباب والمراهقين وإبعادهم عن الشوارع وتنظيم طاقاتهم المتفجرة عبر الرياضة أولاً، وتتمثل أيضًا في محاولة مدنية فعلية في تنظيم فعاليات ثقافية تكون جزءًا من حراك مدني تقوده مؤسسة اجتماعية رسمية. ما قادني للمجادلة، في وقتها، أن نادي الخليج رائد على مستوى المملكة في هذا الجانب في سنوات ما قبل ٢٠١٥، إذ أنه نادي نموذجي يقوم بفعاليات اجتماعية وثقافية مستمرة -مهرجانات في الصيف، أماسي مستمرة في الشتاء- جنبًا إلى جنب مع فاعلية جميع الألعاب بجميع فئاتها السنية، والذي رأيت، وقت كتابة المقالة، أنه بدأ في التراجع عن مهامه الاجتماعية والثقافية كما أنه أهمل الغاية الفعلية التي تنطوي عليها الرياضة. جادلت وقتها أن الألقاب والإنجازات أضحت غاية لذاتها وأن الفاعلية الاجتماعية والثقافية تلاشت بفعل عدم اهتمام الإدارة بغاية النادي الفعلية.
وإذ أجدني الآن في موقف إعادة قراءة الواقع الرياضي في المملكة ككل ونادي الخليج خصوصًا، وفي ظل اتضاح الرؤية الرياضية العامة -التي كانت ضائعة بدرجة ما في ٢٠١٥-، أكتشف أن المشكلة في حقيقتها لا تتصل بالضرورة بإهمال الإدارة السابقة للألعاب المختلفة وللفعاليات الثقافية والاجتماعية -رغم إهمالها فعلاً- بقدر ما أنها كانت لحظة الحيرة والضبابية التي تسبق انعتاق منطق السوق وسيطرته حتى على أدق التفاصيل في النوادي الرياضية، ما اتضح الآن مع الإدارة الجديدة وانبثاق الاستراتيجية الرياضية لمختلف الألعاب. ذلك ما يحيلنا لمراجعة الاستراتيجية وما تنطوي عليه من أفق وحالة آنية مختلفة.
استراتيجية دعم الاتحادات، أو إحياء السوق الرياضي
تقوم استراتيجية دعم الاتحادات على تسعة أهداف رئيسية أذكر من بينها: تعزيز فرص مساهمة الاتحادات في الاقتصاد الوطني، إيجاد فرص للمستثمرين من خلال الاتحادات الرياضية، دعم الاتحادات في تطوير منظومة عمل احترافية. ما خصّصت له الدولة ككل ما يتجاوز المليارين ريال سعودي. وفي حقيقة الأمر، لا يمكن فهم المبلغ الهائل إلا من خلال تفاصيله. إذ في الحين الذي كانت تُقدّر مكافأة الحصول على بطولة الدوري لكرة اليد قبل الاستراتيجية، مثلاً، بثلاثين ألف ريال للبطل أو ما حولها، حصل نادي الوحدة في أول سنة للاستراتيجية ما يقارب الستة ملايين ريال سعودي، قبل أن تتقلص لما يقارب الثلاثة ملايين بعد قدوم الجائحة إلى المملكة. ما يعني، بالضرورة، أن مقدار الصرف لدى الأندية على الألعاب في تزايد تصاعدي. ذلك ما نجده من خلال زيادة العوائد المالية للاعبين الهواة وبداية انتقال اللعبة -شيئًا ما- إلى إطار الاحتراف. ينطبق ذلك على بقية الألعاب جميعها. فصعود فريق كرة الطاولة إلى الممتاز مثلاً عاد بما يتجاوز النصف مليون على النادي. ما يعني، بالضرورة، استقطاب لاعبين ومدربين حتى في كرة الطاولة بما لا يقل عن النصف مليون ريال سعودي، وهي لعبة غير ذات شعبية على الإطلاق. ذلك ما يتوافق، في الوقت ذاته، مع اشتراطات الحوكمة الإدارية والمالية المفروضة على النوادي ككل. إذ يمكن اعتبار الحوكمة الإدارية والمالية تتبّعًا دقيقًا لمنع وجود أي فساد في الميزانيات الكبيرة للنوادي، كما أنها تمهيد في الوقت ذاته لإعادة تدوير صورة النادي الرياضي السعودي بوصفه فرصة استثمارية تنطبق عليها الشروط المالية التي يمكن لها أن تجذب رجال الأعمال. تقوم وزارة الرياضة بتتبّع الأندية بدقة وتصنيفها وفقًا لمطابقتها للشروط ومكافأتها وفقًا لذلك بمبالغ هائلة أخرى تكون هي جزء من الاستراتيجية أيضًا. إذ باعتبار تخطي نادي الخليج لدرجة تقييم ٥، يُصنّف في الفئة جيم مع أندية مثل ضمك والاتحاد والأهلي، ويحصل، كما يحصل كل من هذه الأندية، على ٢٠ مليون ريال.
تساؤلات كثيرة تطرح نفسها على طاولة التحديات التي تواجه الرياضة السعودية في ظل الاستراتيجية، وهي ما بدأ ينطبق على نادي الخليج أيضًا. إذ أن التحدي الحقيقي الذي يواجه النادي يواجه بقية الأندية. تؤكد إدارة النادي الحالية، ويؤكد جمهور الخليج ككل أيضًا، أن ما تنطوي عليه الاستراتيجية، وما تفرضه هو منطق السوق. إن لم تخضع لمنطق السوق فلن تتمكن من المنافسة في أيٍ من الألعاب، وبالتالي لن تتمكن من الحيازة على العوائد المالية الهائلة، والتي تعني -بالتالي- القدرة الأكبر لبناء أي مشروع مرتبط بأي غايات. إذ أن الغياب عن المنافسة يعني التأخّر في ركب التطوير والاشتغال ككل. فالعوائد المالية هي ما تعطي القدرة على بناء قواعد للفئات السنية مثلاً، وهي ما تعطي القدرة على بناء منظومة أكثر فعالية في النادي. أو على أقل تقدير هذه هي الحجة التي تتكئ عليها إدارة النادي الحالية -وقد تتكئ عليها أي إدارة نادي في المملكة ككل.
ولو أردنا فحص الحجة بدقة، يمكننا أن نجد أنها حجة عابرة للقطاعات الاجتماعية ككل. هي بذاتها الحجة التي يستخدمها صناع الأفلام بل وكاتبو الروايات التجارية، وهي بذاتها الحجة التي تستخدمها الماركات التجارية، كما أنها هي نفسها الحجة التي تستخدمها الحكومات النيوليبرالية، والتي تبرز بينها الحكومة الأميركية خصوصًا. ذلك ما يخضع، في القطاعات الفنية مثلاً، لمساءلات جادة، كما أنه يخضع لاعتراضات فعلية من طرق تفكير متعددة في المجالات غير الفنية والتجارية، على الرغم من أنه يبدو للناظر من بعيد للرياضة السعودية بالخصوص والرياضة العالمية ككل على أنه مصير غير ممكن التفادي، وهو ما تراه إدارة نادي الخليج الآن.
ذلك تمامًا ما يدفعنا لمحاولة قراءة السوق السعودي بذاته باعتباره الحالة الانتقالية والتي لم تصل إلى نقطة النضج الفعال كما هو منطق سوق الرياضة الأميركية مثلاً. إذ التساؤل الأهم هنا هو التساؤل الأول نفسه: هل تعود الرياضة على المستثمرين بعوائد مالية فعلية؟ هل تنجح كرة القدم اليوم، بالأموال الهائلة التي تضخ فيها في أندية كبرى على در الأموال على المستثمرين؟ وأسأل السؤال هذا أولاً عن كرة القدم قبل الدخول في ألعاب مثل كرة اليد والسلة والطاولة على اعتبار أنها ألعاب غير ذات جماهيرية نسبيًا.
والحقيقة أن الحديث عن وجود عوائد مالية فعلية من كرة القدم للمستثمرين هو أمر في بالغ الصعوبة. إذ ما زالت كرة القدم السعودية، وعلى الرغم من أن الاحتراف لم يعد في بدايته، لا تجلب أموال فعلية على الأندية. يمكن تأطير العوائد الربحية التي تأتي بها كرة القدم في أربعة نوافذ: تذاكر المباريات، حقوق البث التلفزيوني، سوق الانتقالات والاستثمارات التجارية المرافقة. غير أن الصرف على كرة القدم يتجاوز العوائد منها بأضعاف، وتتّكئ الأندية على دعم الدولة الآن وعلى شخصيات نافذة لها اهتماماتها غير الرياضية قبل الآن. إذ باستثناء الأندية الكبرى، يمكن القول أنه من النادر والنادر جدًا أن تنفد تذاكر الملاعب السعودية حتى في أصعب وأكثر المباريات أهمية وحسم. ليست العوائد التلفزيونية والاستثمارية بأفضل حال من تذاكر المباريات. إذ في الحين الذي تعوّل فيه الفرق الأوروبية على الرعايات بدرجة واضحة، يمكن القول بسهولة بأن الرعايات في تاريخ الدوري السعودي للأندية بالمجمل هو دعم رعوي منذ بدايته أيضًا، إذ أنه دعم من قبل شركات مدعومة حكوميًا، ما ينطبق على عوائد البث التلفزيوني نفسه أيضًا. ذلك كله ما لا ينسجم والتضخّم الهائل في سوق الانتقالات السعودي، والذي لا بد أن ينتهي مع انتهاء الدعم اللامتناهي من الدولة.
وقبل الوصول للنتائج المهمة، يجب التنبيه إلى أن الحديث هنا هو عن أكثر الرياضات شعبية في المملكة وهي كرة القدم. إذ لا ينطبق كل الحديث السابق على الرياضات الأخرى الأقل شعبية، وبالتالي التي لا تنتهي بعوائد مالية حتى خارج المملكة.
لذا، يمكن القول بسهولة بأن التحدي الذي يواجه منطق السوق في الرياضة السعودية أصعب من أي تحدي في أي مكان آخر. إذ لا يكون ضخ الدولة لرأس المال الهائل الذي يتجاوز المليارين ريال سوى محاولة جريئة مليئة بالمخاطر لتحريك سوق غير متحرك بذاته وغير قادر على أن يعيل ذاته. وصحيح أن الرهان قائم على نظرة بعيدة الأفق، وهي أن الإنفاق وإن لم يحرّك السوق اليوم هو في حقيقته يحرّك السوق على المدى البعيد. النماذج الناجحة في ذلك ليست في القطاعات المختلفة من المملكة وحدها، ولكنها في الأساس من دول أخرى طالت تجاربها في هذا المجال مثل الصين وغيرها. إلا أن ذلك تمامًا ما يحيلنا للنظر إلى الخيارات الأخرى وهي التي تقوم على أفكار غير خاضعة لمنطق السوق بالضرورة.
وليسمح لي القارئ بانعطافة سريعة للمقارنة -الضرورية جدًا- بين الرياضة الأميركية، وهي التي لا تنافسها رياضة أخرى في تحكّم منطق السوق فيها، بالرياضة الأوروبية وكرة القدم تحديدًا لتوضيح منطق آخر يمكننا أن نرى تجاوزه لمنطق السوق بدرجة أو بأخرى. إذ على الرغم من خضوع كرة القدم الأوروبية لمنطق السوق بدرجة واضحة غير ممكنة التفادي، لا يمكننا أن نقارنها بالرياضة الأميركية على الإطلاق، وهي التي يتحكم رأس المال بكل تفاصيلها بدقة فائقة وفقًا للمنطق نفسه. أحلل، في الفقرات القادمة، ثلاث نماذج أوروبية يمكن لنا أن نعتبرها نماذج تتحدى منطق السوق بدرجة أو بأخرى، ما سيعيدني للرياضة السعودية ونادي الخليج من بعدها.
التيكي تاكا والمكائن الألمانية
قد يكون الاطلاع على النموذج الهولندي/الكتلوني أحد أهم المحطات التي يجب المرور بها من أجل تحدي منطق السوق قبل العودة للرياضة السعودية. إذ على الرغم من تحكم السوق بالرياضة في إسبانيا، ما يمكن لنا أن نراه في ريال مدريد وأتلتيكو مدريد بوضوح مثلاً، إلا أنه من السهل أن نرى، في الوقت نفسه، أن ما يحرّك برشلونة ويجعل منه فريقًا كرويًا ناجحًا هو أمر بعيد كل البعد عن رأس المال. ففي الحين الذي يكون فيه الغريم الأول، ريال مدريد، بمثابة الفريق الذي يصرف أعلى مبلغ ممكن من أجل استقطاب اللاعبين والمدربين، يركز برشلونة على نموذج وفلسفة كروية خاصة تكون هي، بشكلٍ أو بآخر، مرتبطة بالهوية الكاتلونية، ومتحدّية لكبير إسبانيا، ما بدأت من خلال الأب الروحي لبرشلونة بشكله الحديث اليوم يوهان كرويف. إذ يعتمد برشلونة بشكل هائل على اللاماسيا وتوليد اللاعبين في أكاديميات الفريق من خلال فلسفة محددة تكون هي هوية الفريق على مستوى تكتيكي وتقني جدًا. لا يحقق برشلونة، على مدى تاريخه الحديث، بطولاته وأمجاده عبر الأموال التي يبذلها على الرغم من اشتراطها للقيام بفلسفته. بل يحقق كل ذلك، بل ويحقق معه الأموال والعوائد الربحية، عبر فلسفته وأفكاره التي تشكّل هويته الخاصة أولاً، وبالاستناد على الأموال لخدمة هذه الفلسفة نفسها. بل ويمكن الزيادة على ذلك من خلال تتبّع سنوات برشلونة التي لم يرتهن فيها إلى فلسفته وأفكاره المرتبطة بهويته وخضوعه لمنطق السوق لنجد أنها سنوات ضياع كاملة، على المستويين الكروي والربحي في الآن ذاته. يعتمد النموذج البرشلوني بوضوح على الفئات السنية وعلى شباب برشلونة في المقام الأول، ذلك ما يرتبط بالهوية الكتلونية وبالنموذج التقني التكتيكي في الفريق بشكل واضح.
وفي ضمن سياق نفس النموذج، يمكننا أن نرى نموذج الأكاديميات الألمانية بوصفه نموذجًا آخر لا يعتمد على رأس المال هو الآخر. إذ تولّد الأكاديميات الألمانية النجوم باستمرار وبنوعية محددة. يصف المعلقون الأسلوب الألماني بأنه تقني ومكيانيكي، ما يعبّر عن الجودة في الكم والنوع، على غرار تصدير ألمانيا للسيارات الباذخة ذات الجودة العالية. ليس الوصف هنا رمزيًا وإسقاطيًا أبدًا، إذ تعمل أكاديميات كرة القدم الألمانية على تكوين أسلوب لعب دقيق وحاد في التكتيك، هو يختلف عن الاستحواذ والتيكي تاكا البرشلونيين مثلاً. [٥] وفي الواقع، في النموذجين البرشلوني والألماني، يمكن لنا أن نرى نموذجين مهمين ينطلقان من اختلاق هويات تقنية كروية، هي في جانب استغراق في كرة القدم وينطلق من كرة القدم أولاً لا من المال، وفي جانب آخر مرتبطة بعوامل ثقافية فعلية (وهي الهوية الكتلونية والألمانية).
إقليم الباسك، والنزعة القومية
على اعتبار اتصال الخليج بمنطقته بدرجة كبيرة، وصعوبة اختراق جماهيريته إلى المناطق الأخرى كما أنه ارتبط تاريخيًا بطائفة المدينة التي يقع فيها، يمكن القول أن المقارنة مع إقليم الباسك مقارنة مهمة في هذا السياق. تقوم تجربة نادي اتلتيك بلباو على فكرة رئيسية تكاد تكون أهم عناصر ديمومة التجربة واستمرارية نادي أتلتيك بلباو بوصفه أحد أصعب الأندية الإسبانية والتي تمكنت، بدرجة أو بأخرى، على تخليد اسمها في الدوري الإسباني. إذ يتكئ أتلتيك بلباو على كونه الممثّل الأعلى صوتًا لقضية الإقليم صاحب اللغة الفريدة والمطالِب بالاستقلال عن إسبانيا. ذلك ما يتمثل من خلال قانون صارم في الفريق يقتضي عدم لعب أي لاعب لا ينتمي لإقليم الباسك. ينجح النموذج الأتلتكي، من خلال شد العصب القومي هذا، بتحفيز اللاعبين على اللعب بقتالية، وبحيازته على ملعب يتواجد في داخل الإقليم ويملؤه جمهور متعصب ومتعطش لفوز فريقه الذي يرفع علم الباسك عاليًا، ما يؤثر بدرجة واضحة لا تقبل الجدل على الأندية المنافسة بغض النظر عن الأداء الفني والتقني للفريق على المستوى التكتيكي.
ويمكننا، عبر تحليل النموذجين الألماني والبرشلوني من جهة، والنموذج الباسكي من جهة أخرى، أن نرى هامشين يقاومان منطق السوق بوضوح. إذ في الحين الذي يقوم النموذج الأميركي (والريال مدريدي) على فكرة أساسية محورها أن نجاح الفريق يقوم على مقدار ما تضخ من رأس مال كبير، يقوم النموذجان المذكوران على العكس من ذلك. في الرياضة هوية رياضية وغير رياضية في آن واحد. غير أن ما يجدر النظر إليه بدقة وفحص هو الفارق الشاسع بين النموذجين. ففي الحين الذي تخرج الرياضة من منطق السوق بل وتقريبًا من الرياضة كليًا في نموذج أتلتيك بلباو وتتحداه من خلال أن تكون الرياضة وسيلة للتعبير السياسي والقومي، تنكفئ الرياضة على ذاتها في برشلونة وألمانيا، وتشدد على أهمية الرياضة لذاتها، وأن الهوية الرياضية تتجاوز الهوية السياسية في الوقت ذاته الذي هي لا تركن ولا تخضع للسوق على الإطلاق فيه. ما يدفعنا، بالتالي، للقول بأن النموذجين البرشلوني والألماني نموذجان فنيان في المقام الأول. إذ يشبه نموذج بلباو شاعرًا لا يجيد الشعر ولكن يجيد الاعتراض السياسي، في حين يشبه النموذجان البرشلوني والألماني شاعرًا يجيد الشعر بكل مفاصله دون أن يتخلى عن هويته وارتباطيه الثقافيين. في النموذج الباسكي رجعيةٌ رياضية، وفي النموذجين الألماني والبرشلوني تقدمية فنية رياضية.
الخليج وتحدي الإنجاز. مجددًا…
لنجمّع العناقيد السابقة التي تقودنا إلى هدف المقالة الأساسي، يمكن تلخيص الفقرات السابقة في التالي. من الشاق للغاية أن تتحوّل الرياضة في السعودية تحوّلاً رأسماليًا كاملاً من جهة، إذ فشلت وتفشل اللعبة الجماهيرية الأولى في السعودية في ذلك، وهي كرة القدم. ولذا، يبدو من المهم في مكان أن نبحث عن النماذج التي تنطلق من منطلقات لا تخضع لمنطق رأس المال ومنطق السوق بالكامل، ذلك ما تم استعراضه في النموذجين السابقين. غير أن الحديث عن الرياضة ليس حديثًا عن كرة القدم وحدها، كما أن الاستراتيجية الرياضية لدعم الاتحادات والأندية ليست استراتيجية موجهة لكرة القدم وحدها. ذلك ما يجعل نادي الخليج نموذجًا مثاليًا يمكن من خلاله أن نتساءل عن الهامش الممكن لتجاوز منطق السوق في السعودية في مجمل الألعاب لا في كرة القدم وحدها.
ويمكن القول أن نادي الخليج تمكّن، في لحظات سابقة، من وضع بصمته في الرياضة السعودية في مختلف الألعاب من خلال نموذج مشابه للنموذج الباسكي وإن بدرجة أقل تطرفًا وأقل تسييسًا. إذ أن استمرارية النادي في عطائه في لعبة كرة اليد هي استمرارية تؤكد على هوية المدينة الصغيرة سيهات. حيث كانت كرة اليد في نادي الخليج، وهي أهم لعبة، بمثابة الطريقة التي يثبت فيها أهل سيهات والقطيف وجودهم أمام الآخرين، ونادي الأهلي خصوصًا.
غير أننا، ونحن نعقد المقارنة هذه مع أتلاتيك بلباو وإقليم الباسك، نجد أننا أمام نموذج غير ممكن الاستمرارية. إذ لم ينجح الوتر المناطقي في كرة القدم يومًا كما أنه خارج الحسبة في كرة اليد مثلاً. إذ أن جميع الأندية المنافسة في كرة اليد اليوم مثلاً من منطقة القطيف نفسها، وذلك ما يحيل النادي للتوجه لنموذج النادي الرأسمالي المحض، كما أن اللعبة بحاجة ماسة للانتشار مجددًا في باقي نواحي المملكة.
وفي حقيقة الأمر، لا يمكن لنا أن نعدّ الأمر سوى تحدٍ صعب يواجهه نادي الخليج وتواجهه الأندية الصغيرة المشابهة. إذ كيف يمكن للنادي أن يبقى في المنافسة وأن يخضع لمنطق السوق، ما يجعله يجلب لاعبين من خارج المنطقة ومن خارج الهوية التي تشكَّلَ النادي على أساسها، في الحين الذي هو يأخذ قيمته بكاملها من انتمائه لسيهات، المدينة الصغيرة التي لا يمكن أن تنبت مواهب رياضية بما يتجاوب مع السوق؟ وكيف يمكن للرياضة، في غير الأندية الكبرى التي تنتمي لمدن كبيرة، أن تكبر وتشكّل جزءًا من التنوّع العام في الألعاب المختلفة؟ إذ من المستحيل على الأندية الصغيرة أن تتمكّن من الاستمرار وفقًا لنموذج السوق. لم يتمكن النادي الأهلي، وهو نادي كبير وذو جماهيرية كبيرة في المملكة، من الاستمرار في كرة اليد بناء على منطق السوق. ففي الحين الذي كانت تعتمد كرة اليد الأهلاوية في آخر سنوات مجدها على استقطاب أفضل لاعبي المملكة من خلال رأس مال كبير لا تحوز عليه أندية القطيف، تراجعت كرة اليد بمجرد انكفاء رأس المال الذي لم يعد على النادي الأهلي يومًا بعوائد وفوائد مالية. ليس مصير الأندية الصغيرة بأفضل من مصير النادي الأهلي، لا في كرة اليد ولا في بقية الألعاب المختلفة، إذا اتكأت إداراتها على منطق السوق وحده.
معضلة الهوية
ما أجده مفيدًا من خلال المشكلة التي تواجه نادي الخليج، والذي قد لا يتنبّه له الكثير ممن هم غير منتمين للخليج، هو أن وعي منسوبي نادي الخليج بمشكلة الهوية فرصة حقيقية للوصول لابتكار حقيقي يمكن له أن يحلّ مشاكل الأندية الصغيرة غير الجماهيرية كالهلال والإتحاد. إذ أننا بحاجة حقيقية في نادي الخليج لتجاوز نموذج أتلتيك بلباو، والنموذج الذي قامت عليه هوية النادي في الثمانينات، في الحين ذاته الذي نستخلص من هذه الانتماءات المناطقية هويات صغرى تقوم عليها هويات رياضية متعددة.
ذلك، بالطبع، ما لا تقوم به إدارة نادي الخليج الآن وما لا يهتم له الجمهور الخلجاوي. إذ تجد الإدارة الخلجاوية نفسها في مأزق تختار أن تتفاداه عبر اللجوء إلى نموذج منطق السوق في اللعبتين الأهم: كرة اليد وكرة القدم. إذ يحتّم الصعود إلى الممتاز التعاقد مع لاعبين لسنة أو سنتين على الأكثر، ما لا يمكن أن يكون استدامة لهوية الفريق على الإطلاق. لا يتوقف ذلك في كرة القدم وحدها طبعًا؛ إذ نجد تعاقدات عديدة في كرة اليد مع لاعبين أجانب ومحليين في الوقت نفسه، بل ولاعبي الخصوم. بل، ويمكن القول أن الفعاليات الاجتماعية التي يقوم بها النادي الرياضي اليوم -عمومًا وبتوجيه من وزارة الرياضة- هي فعاليات تنسجم بالكامل مع رؤية ترفيهية/تسويقية تتناسب مع النظرة الاقتصادية للفعاليات الاجتماعية والثقافية. إذ ليست الفعاليات الاجتماعية غاية في ذاتها بقدر ما أنها فعاليات يمكن لها أن تنسجم مع قدرة النادي على جلب أنظار المستثمرين بدرجة أو بأخرى. ما يتجلى من خلال ارتباط الفعاليات الاجتماعية بالمباريات، تمامًا كما تفعل الفرق الأخرى الباحثة عن المستثمرين، ما لا يمكن ربطه بقيمة اجتماعية متعلقة باختلاق هوية تحل المعضلة المذكورة أعلاه.
وكما أننا نوّهنا إلى أن الإدارة الحالية تعي المعضلة الحالية، هي أيضًا تعي بأن قيمة نادي الخليج تقوم بالكامل على هذه الهوية المناطقية. أعاد عدد لا بأس به من أعضاء الإدارة تكرار الأفكار التي تتحدث عن ضرورة الاشتغال على الهوية أولاً قبل النظر إلى النادي بوصفه منشأة رأسمالية استثمارية قبل وصولهم إلى الإدارة الحالية. [٥]
غير أن الحديث عن الهوية غير كاف، ونجد أن الخليج بحاجة لابتكار هووي يتناسب مع السياق الجديد بتغيراته بدلاً من الخضوع للاستراتيجية التي، في يومٍ ما، ستنتهي وتترك الأندية الصغيرة للفشل في الحين الذي يتناسب منطق السوق فيه مع الأندية الكبرى. لا يمكن، بأي حال من الأحوال، اعتبار انسجام الأندية الصغيرة، مثل الخليج، مع الاستراتيجية الرياضية والرؤية الرأسمالية للفرق الرياضية نجاحًا، وإن تحققت الألقاب واستمرّت الفعاليات. إذ أن الغاية من الدعم المالي الهائل هو تحريك السوق وجلب المستثمرين، ما يحتم على الأندية الصغيرة غير الجماهيرية أن تفشل فيه، تمامًا كما تأكل الشركات الكبرى بمنطق السوق المشاريع الصغيرة.
لذا، عطفًا على ما تقدّم، لا تكون الملاحظات السابقة أكثر من كونها محاولة لتحليل وفهم التحديات التي تواجه الرياضة في عمومها. إذ في الحين الذي لا يمكن لنا أن نهرب من منطق السوق تمامًا، نجد أننا عاجزين فعليًا عن رؤية أفق لرياضة متعددة الأبعاد ضمن منطق السوق نفسه، لا سيما في الهوامش والأندية والمناطق والألعاب غير ذات الجماهيرية الكبيرة، ما هو بحاجة إلى وعي ومقاومة جادين.