يُظهر كثيرٌ من الأعمال الأدبية صورةً وشكلاً مغايِرًا لجوهرِ العمل وما بين سطوره. وتبدو «الباب الضيِّق» لأندريه جيد، الصادرة بترجمة نزيه الحكيم من دار المدى عام 2014،مثالاً جيدًا على هذه المفارقة التي تحدث كثيرًا في الروايات.
لا يُمكن لقارئ العمل أن ينفكّ عن فهمِ الرواية باعتبارها عملاً يُسلِّط الضوء على قصة حبٍّ مأساويّةٍ بين عشيقين عذّبهما البَيْن في أحيان، وأرهقتهما الظروف في أحيان أخرى. غير أنّه لا يُمكنه أيضًا أن يتجاهل، في هذه النسخة العربية من العمل، مقدّمتَيْ أندريه جيد وطه حسين الموجهتين للقارئ العربي بالخصوص، واللتين تتناولان مفاهيم غير رومانسية، ولا علاقة وثيقة بينها وبين الحب. فالمقدمتان اللتان جاءتا على صيغة مراسلات بين كلٍّ من أندريه جيد وطه حسين، تتناولان مفاهيم مثل «الشك»و«اليقين»من أندريه جيد خصوصًا، والذي لم يفهم -كما يبدو- سبب اختيار هذا العمل بالذات لترجمته، وهو -أي العمل- قد يواجه القارئ المسلم المطمئن، بالأسئلة والشكوك كما يظن جيد. وذلك ما يرد عليه طه حسين، مُضمِرًا، أنّ أندريه جيد لا يفهم الإسلام الذي يدعو إلى التفكر والتدبر والإبصار، كما يقول. وهكذا تعمل هذان المقدمتان، واللتان أرى أنّ غاية وضعهما في بداية الرواية عرضة للمساءلة النقدية، عملَ مفاتيحَ يُمكن من خلالها فكُّ بعض شفرات العمل الفني. حيث إنّ هذه القراءة التي بين أيديكم تدّعي أنها رواية دينية، أو ما يُشبه النقد الديني في المقام الأول.
تبدأ أحداث الرواية بعد أن توفّي والد جيروم، بطل الرواية، والذي بدأ بعد ذلك كنتيجةأن يتردد على بيتِ خاله، البيتِ الذي يحوي أليسا وجولييت (الأولى تكبره سنة والأخرى تصغره بسنتين) الأمر الذي أدّى إلى نشوء علاقة عاطفية بين جيروم وإليسا من عمرٍ مبكّر.
تغرق الرواية في تفصيل العلاقة العاطفية هذه بين الاثنين، وذلك ما يجعل الرواية تشبه عملاً كلاسيكيًا يحاول بحث تعقيد مشاعر الحب والرغبة المتضخمة عند الاثنين. حيث تتناول الرواية مثلاً هذا الحب في بداياته قبل البوح، ومن ثم في أثناء البوح نفسه، وذلك ما يسبق رغبات ترتبط بالحب مباشرةً، كما أنها تتناول العلاقة عن بُعد من خلال الرسائل المستمرة. ذلك، بالإضافة لنهاية الرواية المأساوية، ما يحيل القارئ إلى الاستنتاج المعقول في أن الرواية محاولة لفهم قصة الحب المعقدة والمؤلمة التي حدثت بين أليسا وجيروم. وهو استنتاج مبرر بدرجة كبيرة، وذلك باعتبار السرد بلسان جيروم المتعذِّب نفسه، والذي بقيَ في صلةٍ وثيقةٍ مع هذا الحب مدة طويلة، وذلك ما يبيّنه من خلال سرده باستمرار.
إلا أنّ ما يُمكن ملاحظته أنّ هذه الرواية، والتي تُسرَد على لسان جيروم، تكاد لا تكون بلسانه بل بلسان أليسا. حيث يمتلئ سرد جيروم برسائل تصِلُه من أليسا دونًا عن الرسائل التي يكتبها هو، وإن كان يعلّق عليها، كما تنتهي الرواية بيوميّات أليسا التي يقرؤها هو. إذن، من الصعبِ هنا أن نحاول فهم جيروم، أو موقعه في هذه الرواية، وإن كان السارد والعاشق المعذَّب. بل ما يبدو أنّ الرواية كلها تتمحور حول أليسا وشخصيتها الاستثنائية.
تنضح الرواية في بداياتها بحواراتٍ عميقة بين كلٍّ من جيروم وأليسا، فهو العاشق الذي يفضّل أليسا في كل الحالات، وهي العاشقة الأخرى التي لا يُمكنها على الرغم من عشقها هذا أن تنسى علاقتها بالله. فلا يُمكن لحوارٍ جاد في حبّهما إلا وأن يحوي أمنيةً منها أن يُخلص جيروم حبّه لله وتكامله مع الله، فذلك هو الإخلاص الحقيقي. جيروم من أسرة متدينة هو الآخر، إلا أن ارتباطه بهذه القوة الميتافيزيقية الهائلة التي ارتبطت بها أليسا من عمر المراهقة ليس بهذه الوثاقة. بل هو مرتبط بحبه لأليسا في المقام الأول. هذه الشخصية الاستثنائية التي تكوّنت في أليسا كانت هي الحاسمة في القصة المأساوية هذه.
ما يقوم به أندريه جيد، بعد ذلك، هو الانخراط في محاولةٍ لتوضيح التباين الكبير بين كلتا الشخصيتين. وذلك باعتبار جيروم شخصية عاشقٍ لا يختلف كثيرًا عن العشاق، وباعتبار أليسا شخصية متدينة تكبت عشقها بتديّنِها هذا. ليس العشق، في دين أليسا، ذنبًا في حدّ ذاته، إذ من الممكن أن ينتهي إلى نهاية شرعية. إلا أنّ فهمها الديني يتجاوز ما هو شرعي وماهو غير شرعي، فهو فهم ميتافيزيقي يحاول أن يندمج مع الله، على غرار القديس أوغسطين. كيف يُمكن لحبّين أن يجتمعا في قلب المؤمن، حب الخالق وحب المخلوق؟ ذلك ما يخلق المعضلة في داخلها. من هنا تمامًا، يتضح الصراع الداخلي الذي ينتج تذبذبًا في تعامل جيروم مع أليسا. يبدو كل ذلك لجيروم أفعالَ عشقٍ ملتويةً، بيد أنها اضطراب وصراع بين العقل الديني في داخل أليسا، وبين العاشقة الحقيقية في داخلها. ولهذا، ما يحدث هو أنّها الأكثر عشقًا في رسائلها الفيّاضة بالحب، إلا أنّها الأكثر برودًا في اللقاءات الحقيقية. يتنامى البرود بين وقتٍ وآخر، حتى تبدأ أليسا تلغي وجود جيروم من حياتها، وتحاول أن تغيّر نظرته تجاهها كي يتصل هو الآخر بالخالق كما اتصلت هي به، وذلك قمة الحب المرتبط بالذات الإلهية في اعتقادها. ومن هنا لم تتمكن المعضلة من أن تنتهي.
تبدو لي رواية «الباب الضيِّق»بحثًا عميقًا في هذا النوع من التدين الاستثنائي المؤثّر على العلاقات الإنسانية الطبيعية. وهي قراءة نفسية في طبيعة هذه الشخصيات في المقام الأول، لا يُمكن لها أن تُقرأ إلا بالصيغة الأدبية القادرة على القبض على المشاعر المتضادة، والمشاعر المعقدة بتعقيد السرد الروائي، وذلك ما تمكّن أندريه جيد، في ظني، من إظهاره في هذه الرواية.
(*) نُشر المقال في مدونة ثنايا في تاريخ 1\29\2019