يلخص تا نهيسي في كتابه “بيني وبين العالم” “Between the World and Me” الصادر في العام 2015 تجربته الشخصية مع العنصرية في أميركا باعتبارها تتمحور في معظم أجزائها حول الخوف. الخوف عند الكاتب هو ما يشكّل العنصرية في شكلها الأعمق، والذي يتغلغل في الوعي المستمر للإنسان الأسود في كل لحظة من لحظات حياته في الولايات المتحدة. هذا الخوف الذي يتواجد على الرغم من لحظات الفرح والبهجة، وعلى الرغم مما يبدو لمن لم يعش حياة الأسود حياة اعتيادية، وهو ما يتشكل نتيجة لعنصريّة متجذرة في أعماق المجتمع الأمريكي، مؤسساتيًا وبنيويًا. هذا ما ستحلّله هذه المقالة على ضوء ما يقدمه تا نهيسي وعلاقته بالفكر الأقلوي بالعموم.
على شكل وصية لابنه، يقدم تا نهيسي فهمه وتحليله للمجتمع الأمريكي وقضية الأقلية السوداء في أمريكا على ضوء تجربته الشخصية كدليل أساسي على استشعاره للعنصرية المتجذرة في المجتمع. ليست العنصرية، عند الكاتب، مجرد قوانين وضعية في الدستور وفي المؤسسات الرسمية للدولة تسمح بالعنصرية وبوجودها. إن العنصرية العرقية في المجتمع الأمريكي تقوم على بنية تضع الأبيض الأمريكي في موقع امتياز Privilege، وتضع الأسود في موقع معاكس، بل وأن امتياز الأبيض يقوم على موقع الأسود السيئ. يفهم تا نهيسي المجتمع الأمريكي وتوزيعه الجغرافي على ضوء اقتباس ينقله في الكتاب: “لا يكون الجبل جبلاً إن لم يكن هنالك ما هو تحته.” (1) ما يبنيه تا نهيسي بناء على هذا الاقتباس، هو أن موقع السود في الطبقات الدنيا من المجتمع، والتي تنتهي بفرص تعليم أقل ومعدّل جريمة أعلى على سبيل المثال، ليس مصادفةً، وليس مجرد نتيجة طبيعية لتاريخ العبودية الأمريكي الملطخ بالعار فحسب، بل هو ممؤسس ومجذر ومقصود. إن وجود الأسود في الأحياء المليئة بالجريمة والتي لا تنتج في العادة فرصًا مكافئة لبقية طبقات المجتمع هو ضروري من أجل أن يبقى العبد السابق عبدًا ولكن بشكل آخر. ومن أجل أن يحظى السيّد السابق، أي بقية البيض، على الخطوة الأولى في سلّم الفرص الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية.
إن هذه العنصرية تتمظهر بشكل كبير في شكل المجتمعات والأحياء التي يعيش فيها السود. ما يراه تا نهيسي هو أن العنف والإجرام الحاصل في مجتمعات السود هو مجرد أداة من أجل أن يعيش الأسود في الخوف المستمر من الذات قبل الدولة. يتمظهر ذلك من خلال رفض وجود الأسود في الأحياء الغنية وفي المدارس الغنية، مما يعني عزله في مجتمعاته التي تنقصها العناية الأمنية والاقتصادية، ناهيك عن الدراسية. لم تكن الأحياء الغنية سوى للبيض، وما هو حاصل نتيجة لهذه السياسة المقصودة وغير ممكنة الإلغاء. غير أن هذا ليس التمظهر الوحيد للعنصرية الجذرية داخل المجتمعات السود، بل إن المدرسة بذاتها تمظهرًا حادًا لهذه العنصرية. يقدّم تا نهيسي العنصرية في النظام الدراسي الأمريكي في المجتمعات السوداء باعتبارها المبرر الأكبر الذي يتم استخدامه لتبرير هذه العنصرية الجذرية، وذلك عبر وسيلتين: الحلم، والخوف. إن المدرسة والتعليم هو ما يوفره النظام الأمريكي باعتباره تذكرة الهروب من هذا المستنقع الذي يعيشه الأسود في مجتمعاته، إنها الوسيلة التي يصل فيها الأسود إلى “الحلم الأمريكي”. غير أن التعليم، في ظل طبيعة المجتمع الأسود القائم على الشارع في المقام الأول، لا يمكن أن يكون وسيلة حقيقية للخروج من الوحل الذي تتصف فيه طبيعة هذه المجتمعات. ليست المدرسة هنا سوى المبرر للعنصرية. أي: إن لم يتمكن الأسود من النجاح في المدرسة فإنها مسؤوليته الشخصية باعتباره صاحب إرادة حرة، وعودته إلى الشارع ووحل الإجرام الموجود في المجتمعات السوداء هو مسؤوليته هو التي يجب عليه أن يتحمل تبعاتها. إنها الوسيلة التي يخلي فيها المجتمع مسؤوليته أمام هذا الفرد، والذي، بنظر تا نهيسي، غير قادر أصلاً على تحملها في ظل بنية المجتمع الذي يعيش فيها. إن كل ما يشعر به الأسود في ظل كل هذا هو الخوف. الخوف من الشارع، الخوف من السلطة، والخوف من الفشل، وهذه هي النتيجة الأعمق على الفرد في ظل هذه العنصرية المتجذرة.
وبطبيعة الحال، لا يمكن لتا نهيسي أن يقدم كتابًا كهذا دون أن يقدّم فهمًا وموقفًا تجاه الهوية الأقلوية للسود بوصفها هوية جمعية في ظل ثقافة فردانية. هو لا يختلف كثيرًا في الكتاب عمن يسبقه ممن تتطرق للموضوع، مثل مالكولم اكس ومارتن لوثر كنق. لكنه يقترب من جيمز بالدوين في نظرته بدرجة عالية جدًا. حيث أنه ينطلق من عبارة جيمز بالدوين الشهيرة في فهم الأزمة الهوياتية: “وقد أوصلوا الإنسانية إلى حافة النسيان؛ لأنهم يظنون أنهم بيض.” (2). أي أنه ينطلق من رفض العرقية بأكملها باعتبارها خرافة علميًا، تم استخدامها من قبل العنصريين من أجل فوقية العرق الأبيض. غير أن ما يثير الاهتمام هنا هو وعي تا نهيسي بتأثير المظلومية على تضخّم الهوية السوداء لدرجة لا يمكن الفصل بينها ربما وبين العرقية نفسها. يمكن لنا أن نرى ذلك في تعبيره عن صدمته حين رأى الفارق الكبير بين الأسود في أوروبا مثلاً، والأسود في الولايات المتحدة. ذلك ما جعل قدسيّة الهوية السوداء تتداعى في نظره، وأن العرق الأسود الذي كان مغرمًا به نتيجة لهذه المظلومية لا يعني شيئًا إلا في السياق الأمريكي. إنها الصدمة التي كوّنت مفهوم الجماعة الحقيقي عن تا نهيسي، بعد أن راجع مفهوم الجماعة ونفضه بكليته. إن ما يراه تا نهيسي كنتيجة لهذا هو أن الهوية السوداء الجمعية لا تقوم على لون البشرة أو العرق، بل هي قائمة على التجربة المشتركة بين من يحمل لون البشرة هذا، وهو الذي يتمثل في الخوف. إن الخوف هنا هو ما يجمع بين الأسود وأخته السوداء. لا يرى تا نهيسي ملجأً للأسود سوى في الجماعة التي تعرف المعاناة هذه. وهو بذلك يستخدم مصطلحات مثل “الحسد الأسود” و”المجتمع الأسود” بل وحتى “الأمة السوداء”، وهو مصطلح اشتهر به مالكولم اكس. ليس ذلك فقط، بل هو لم يتمكن من تجاوز السردية التي تضع الصراع الأساسي في التاريخ الأميركي باعتباره صراع بين الأسود والأبيض، وذلك على الرغم من إقراره وتأكيده مرارًا على أن المشكلة كل المشكلة في المحاولة المستمرة لتصنيف الأسود. يبرر تا نهيسي ذلك بأن اعتبار مشاعره هذه تجاه الصراع، ومشاعره في تضخم الهوية، اعتبارها عرقية هو مجرد خسارة سياسية ودعاية عنصرية. يعلّق بحرارة: “صنعوا منا عرقًا. وصنعنا منّا شعبًا.” (3).
أخيرًا، لا تتضمّن هذه المراجعة مجرد تلخيص لأفكار تا نهيسي. بل هي تحليل ينتقد أفكارًا ويعلي من شأن أفكار أخرى لم يقدمها تا نهيسي على هيئة أفكار واضحة، وذلك باعتبار أن النص كتب على هيئة مذكرات ووصايا. ذلك ما يجعل مهمة الإحاطة بجميع الأفكار في مقالة كهذه مستحيلة، ناهيك عن نقدها كلها. إن أفكار تا نهيسي هنا لا تقل أهمية عن أفكار مارتن لوثر كنق، مالكولم اكس، وجيمز بالدوين، وذلك باعتبارها الأفكار التي يمكن القول عنها أنها تلخّص كل ما يراه اليسار الليبرالي الأميركي، وما يراه صائبًا سياسيًا في موضوع الأقلية السوداء في الولايات المتحدة. ذلك ما يمكن ملاحظته من خلال توزيع الكتاب بالمجان في معظم الجامعات الليبرالية في أميركا -وهكذا حصلت على الكتاب-، وما يمكن ملاحظته من خلال انسجام الكاتب وأفكاره مع كل ما يريده الإعلام الليبرالي اليوم.
(*) نُشرت المراجعة في مدونة ثنايا بتاريخ 7\18\2019
1. الاقتباس لـ ثافوليا قليمف. “A mountain is not a mountain if there was nothing below”.
2. نص الاقتباس بالانجليزية: “And have brought humanity to the edge of oblivion: because they think they are white.”
3. نص الاقتباس بالانجليزية: “They made us into a race. We made ourselves into a people.”