امتداد العباب اللانهائي
لا تشبه رواية إدوار الخراط “ترابها زعفران” الرواية العربية التقليدية أبدًا. بل ربما لا تشبه أيضًا معظم الأشكال الحديثة للرواية الغربية. فمن حيث الشكل والأسلوب، يمكن القول أن الرواية “إدوار خراطية”، إن صحت التسمية.
تنتمي “ترابها زعفران” إلى الذات، ذات إدوار، كما تنتمي إلى المجتمع والوطن، مجتمع ووطن إدوار، لا من حيث الزمن، ولا من حيث الأحداث. بل هي تنتمي إلى الذاكرة “الحسية” لإدوار، وهو الذي نظّر عن موجة “الحساسية الجديدة” التي ينتمي لها هو وآخرون من الروائيين والكتّاب المصريين.ومن معالمها، أي “الحساسية الجديدة”، “كسر الترتيب السردي الاطرادي، فك العقدة التقليدية، الغوص إلى الداخل لا التعلق بالظاهر، تحطيم سلسلة الزمن السائر في خط مستقيم… توسيع دلالة الواقع لكي يعود إليها الحلم والأسطورة والشعر، مساءلة -إن لم تكن مداهمة- الشكل الاجتماعي القائم، تدمير سياق اللغة السائد المقبول، اقتحام مغاور ما تحت الوعي…”، وهي ما يضعها في مقابل الحساسية القديمة للروائيين العرب الأسبق، وتتجلى في “ترابها زعفران” بأجمل صور ممكنة. [1]
لا توجد حبكة عند إدوار في هذه الرواية، بيد أنّ الثيمة العامة، وهي الحساسية الفنية في استذكار الماضي، وفي تحسس أفكاره وأحداثه، هي ما تأخذ حيّز ومكان الحبكة في الرواية. لا تدور الرواية حول شخوص، ولا حول أحداث، بل تدور حول الحس المترابط والمتنامي بين مواقف عشوائية تكون الذات محورها. يقبض إدوار على شعورٍ يبدأ من الطفولة، ويبحث عن استمرار ورسوخ الشعور نفسه في الذاكرة والنفس والشخصية، في مواقف عشوائية أخرى قد لا تكون في الطفولة، وقد تكون خارج سياق الزمن أساسًا، بيد أنها تتمحور حول الذات نفسها. فهو يمسك مثلًا بعاطفته تجاه أبيه في طفولته، كما يقبض عليها في عمر الشباب في فصلٍ بعيد جدًا، لا يربطه بالأول سوى هذه الرابطة الشعورية الحسية تجاه الأب، قبل أن يعود للطفولة مجددًا بهذه الرابطة الحسية الجمالية. ليس هناك ما هو ثابت في حبكة إدوار. كل شيء متحرك، إلا الذات التي تربط وحدها كل مكوّنات الرواية بوثاقة عالية.
يتنقّل السرد في الرواية من الراوي العليم إلى الراوي الأول بشكل مستمر وانسيابي، غير ملحوظ في كثير من الأحيان، وملحوظ بتدفّق مقصود في أحيان أخرى. فالمكان يتحدث في عين “ميخائيل”، الشخصية الرئيسية، يتحدث كي تظهر مشاعر ميخائيل بصوت المكان لا بصوت ميخائيل نفسه، ولكن بعينه. بعبارة أخرى، يحلل إدوار بصوت الراوي العليم طفولته، ويصفها بصوت الطفل نفسه. يستخدم إدوار ذات الأسلوب حين يجعل الأسطورة تأخذ حيزًا واسعًا في الرواية بعين ميخائيل، في مقابل تصوير الريح كما لو أنها “رفرفة الملائكة” حين ترى بعين الطفل.
يحضر المناخ السياسي في “ترابها زعفران” كذلك. فللاستعمار والقمع حيّز كبير من ذهن “ميخائيل” في أحاسيسه، لا في أفكاره. الذاكرة هنا هي محور الأحاسيس الأساسي. فهو يتذكّر مثلاً المرة الأولى التي يكتشف فيها “أنّ للنقاوة طرق خفيةٌ أيضًا” بعد مساعدة إحداهن له في الهرب من كمين. يتوازى ذلك مع استخدام إدوار لهذه الملاحظات الدقيقة الحسية في الذاكرة ليقول ما لا يُمكنه أن يقول، موصّفًا، لا باحثًا لما وراء التوصيف. فبتحسس الطفل للتفاصيل والصور الجديدة حوله، تفاصيل وصور الأنثى مثلاً، أو تفاصيل وصور الموت واستشعار غرابة المحتل في مواضع أخرى، يستكشف إدوار رغبات الإنسان الكامنة واللاوعية، كما يقدّم مواقفه الاجتماعية والسياسية بذكاء حاد عبر التوصيف وحده.
قد يكون تحسس الموت والموقف منه هو موقف إدوار الأول في الرواية، كما أنه يقظته الأولى للتفاصيل. تبدأ الرواية بالموت، بموت من يشتهيه “ميخائيل”، كما يتخللها خيال ميخائيل الخائف من فقدان أمه بنفس الطريقة الوحشية التي رأى فيها موت الفتاة تلك. وتنتهي الرواية أيضًا بحوارٍ لا يرد فيه “ميخائيل” على من يتهمه بطفولةٍ مدللة سوى أنّها كانت مليئةً بالموت أيضًا.
بالمجمل، ليست رواية “ترابها زعفران” من الروايات العابرة، ولا يُمكن أن تُقرأ بشكلٍ عابر. الرواية عمل جاد بحاجة لقراءة فاحصة لتحسس كل الصور الثقيلة التي تحويها، وبحاجة لقراءة واعية لفهم مقاصد إدوار الخفية. وبرغم أن لغة إدوار الشاعرية عائق حلو في الوصول إلى الصور والمقاصد، يُمكن تخطّي هذا العائق بإعطاء الرواية نباهةً تستحقها.
[1] الخراط، إدوار. “الحساسية الجديدة”. وهو كتاب نقدي مهم يقدم نقدا وتحليلا للحساسية القديمة، والتي، من وجهة نظر إدوار، تنتمي لها كلاسيكية نجيب محفوظ مثلاً ويوسف إدريس، ومن ثم يقدم لكتّاب الحساسية الجديدة، مثل بهاء طاهر، عبده جبر، إبراهيم عبدالمجيد، وإبراهيم أصلان.