قد لا يبدو على الميني-سيريس، أو المسلسل القصير “أكاذيب صغيرة كبيرة”، أنه يستحق كتابة تدوينة كاملة عنه، إلا أن المواضيع التي يتطرق لها ويطرق أبوابها هذا المسلسل هي مواضيع لها أهمية كبيرة، ووثيقة الصلة بالقضايا الراهنة. بل وهي مواضيع ملحة تحتاج إلى إعادة القراءة والفهم على ضوء الحياة الاعتيادية للمجتمع الحديث، وذلك ما يوفره هذا المسلسل إلى درجة بعيدة. تتطرق هذه المراجعة إلى ثلاثة قضايا: السياق النسوي وهي قضية المسلسل الرئيسية، الظروف والجينات، وأخيرًا الكذبة الكبرى.
السياق النسوي
يحاول المسلسل أن يحيط بأبعاد القضية النسوية من عدة اتجاهات من خلال أربع شخصيات تمثّل كل واحدة منهن نموذجًا مختلفًا عن الآخر في البعد الذي تشرحه. حيث تمثّل شخصية “جين شابمان” شخصية المرأة المستضعفة والضحية بشكل مباشر وملموس وليس مبطن، وذلك من خلال كونها ضحية اغتصاب. حيث هي هنا ضحية ذكورية وسادية هي نتيجة للمجتمع الذي يقوم على أساس النظام الأبوي الذي يسمح ويرسّخ قدرة الرجل على ممارسة فوقيته. نموذج “شابمان” هو نموذج الضحية المستمرة. الضحية التي يرافقها الشعور المستمر بالألم مجردًا من الموقف واللحظة المؤلمة نفسها، وذلك ما يحقق اكتظاظًا بالداخل دون وجود ما هو معبر بشكل حقيقي عن حقيقة هذه المشاعر التي كانت تراودها كصور فقط لمحاولة الهرب من حقيقتها ركضًا على الشاطئ، ومن ثم محاولة التطهر من الجسد المثقل بالذاكرة والألم بالدخول إلى المياه عاريةً، لكن دون جدوى. حيث يبقى الألم كابوسًا يلاحقها دائمًا، خصوصًا من خلال “زيقي”، ابنها من المغتصب نفسه. شخصية “جين” هنا تمثّل الجانب السطحي فقط من القضية، حيث تمثّل شخصية “ساليست رايت” بأداء نيكول كيدمان الاستثنائي، التمثيل الأكبر للمرأة-الضحية للبنية الاجتماعية الأبوية والذكورية، والتي تفترض أنه من الكافي للمرأة حين تتوفر الإمكانيات المادية-الاقتصادية الكافية عند الرجل أن تبقى “ربّة بيت” ترعى أبناءها. حيث أن السياق الذي تعيش فيه “رايت” هو سياق أنها ليست بحاجة إلى ممارسة مهنة القانون، فالمهنة لدى المرأة في ذلك السياق، أو في الذهنية الاجتماعية العامة، هي أن الخروج عن إطار “ربة المنزل” للمرأة هو خروج اضطراري للحاجة المادية التي لا يمكن تفاديها، حيث لا مجال للحديث هنا عن تحقيق الذات. تتمثل ذروة القضية هنا أيضًا حين تتضامن شخصية كيدمان مع شخصية “مادلين”، والتي هي الأخرى خرجت من المنزل إلى المسرح في العمل الإداري بحثًا عن تحقيق الذات بعيدًا عن تحقيقها من خلال التربية والأطفال.
لا ينتهي السياق النسوي هنا فقط، بل ربما هو يتمثل بعمق كبير في شخصيتي “ريناتا” و”بوني”. حيث تمثل الأولى شخصية المرأة العاملة والثرية، والتي لم تتجاوز بعد مشاكلها النسوية، وربما من وجهة نظر أخرى، كما يمكن أن تقول بيل هوكس مثلاً، هي تمثل الترسيخ الذي يعتمد عليه النظام الأبوي للذكورية من خلال كونها نموذجًا وهميًا للمرأة الناجحة في المجتمع، على الرغم من عدم تخطيها الحقيقي للعراقيل التي تواجه المرأة. وعند شخصية “بوني” قد تتلخص فكرة المسلسل النسوية ككل، حيث أنها المرأة السوداء الوحيدة من بين الجميع، والتي تتمكن في نهاية المسلسل من قتل الرجل الذي يمثل العراقيل الحقيقية التي واجهها النموذجين الأولين ل”شابمان” و”رايت”، والذي تسبب في واقع الأمر بالأزمة الدرامية التي يقوم عليها المسلسل، وهي التنمر. تكمن أهمية شخصية “بوني” في لونها، حيث أن كونها سوداء هي رمزية حتمية للحراك النسوي للمرأة السوداء والذي كان في مقابل النسوية البيضاء لمدة طويلة وتمثله النسوية “بيل هوكس” بشكل صريح. حيث هنا يرمّز المسلسل إلى أن إمكانية حل مشكلة المرأة هو بحاجة إلى تضامن نسوي حقيقي بين الجميع، وتخطي المشاكل الموجودة، وهنا هو يضع قضية النسوية السوداء “بلاك فمنزم”، باعتبارها أحد الأجزاء المتفرقة للحراك النسوي، كأول شرط لحل هذه القضية.
الظروف والجينات
تطفح المعضلة التي سببت توترًا حولما إذا كان “زِقي”- ابن “شابمان” هو المتنمر أم لا. حيث يتبادر لذهن أمه هوس أن يكون ذلك في جيناته والتي أتت من والده الذي اغتصبها بوحشية سابقًا، وإن كان الـدي إن إيه هو أحد الأسباب الرئيسية التي كان من الممكن أن تسوّغ تهمة التنمر عليه بشكل كبير. تبزغ هذه المعضلة لعلو نبرة النظرة العلموية في تفسير الأخلاق والأطباع، على الرغم من كونها غير مريحة لأم “زِقي”، إلا أنها تتواجد بقوة في هذه الظروف. إلا أن الواقع يثبت أن الأسباب السيكولوجية التي جعلت من زاك، ابن رايت-كيدمان وزوجها السادي، هو المتنمر الحقيقي، وذلك ما يضمّن المسلسل أنه عائد إلى تطبّع الابن بأبيه. حيث ينتصر المسلسل هنا للتفسير السيكولوجي على البيولوجي بوضوح. في الوقت نفسه، يمكن أن نفهم شخصية الأب-المغتصب نفسه باعتبارها هي الأخرى مجرد نتيجة وتمثُّل متطرف للنظام الأبوي-الذكوري القائم على تراكمات تاريخية، تعيد إنتاج شخصيات ذكورية بهذا القدر من عدم التحكم بالذات. حيث أنه يحاول دائمًا يفهم نفسه، وهو في الوقت نفسه يحاول أن يسيطر على نفسه وذلك الذي يصاحب اعتذاراته الدائمة من زوجته والتي لا شك في أنه متيم بها. إلا أن هذه التراكمات دائمًا ما تكون الرابح في النهاية.
شخصية “ريناتا” هي الأخرى يمكن فهمها تحت هذا الإطار. حيث يقدّم التسلسل الدرامي هذه الشخصية كشخصية سيئة تهاجم الآخرين بكل عصبيّة وتطرّف، إلا أنّه ما يلبث وأن يوضّح أنّها لها مبرراتها ودوافعها التي ما إن تلاشت حتى ظهر الجزء النسوي فيها، في الكذبة الصغيرة الكبيرة.
الأكاذيب الصغيرة الكبيرة
من خلال الصورة الفنية التي تصاحب المدينة الصغيرة التي تدور فيها الأحداث، وهي مدينة مونتيري في ولاية كاليفورنيا، من السهل ملاحظة دلالة المجتمع البرجوازي الذي يعيش في مدينة شاطئية بهذا المستوى، ويسكن في ڤلل لا تطل فقط على الشاطئ البديع مباشرة، بل هي عليه حرفيًا. ومن هنا يمكن فهم كيف من الممكن أن تلعب الحالة المادية الرفيعة أحد الأدوار الرئيسية في تفعيل الأزمة الدرامية القائمة في المسلسل. حيث ما توحي به هذه الحالة المادية الرفيعة أن الحياة هي حياة هنيئة إلى أبعد درجة، في حين أن المجتمع يكتظ بالأزمات الاجتماعية الكبيرة. فعند البحر تمامًا تسترجع جين آلامها كلها، وبالقرب من المسرح، والذي يمثل حالةً من الحراك الحضاري الناتج من هذا المجتمع البرجوازي، تحدث خيانة “مادلين” لزوجها، والتي كانت سببًا رئيسيًا في ذروة الحلقة الأخيرة. وذلك ما يتفشى بوضوح أيضًا في نهاية المسلسل، من خلال الأغني -الجميلة بحق- التي تم تقديمها في الحفلة الأخيرة كإهداءات من قبل كل زوج لزوجته كتمثُّل كبير لحالة من الحب، تفضحها خيانة مادلين وأزمة ساليست. وذلك ما يتفشى بوضوح حين ينتهي المسلسل بالكذبة المتفق عليها والتي تغطي عليها الشمس الساطعة على الشاطئ، بعد ست حلقات مغيّمة وأقرب للعتمة دون وجود الشمس، على اعتبار أن المشكلة الكبرى (الرجل) انتهت، في حين أنها للتو تبدأ.
خاتمة
نهايةً، يقدّم المسلسل قيمةً كبيرةً من حيث التحليلات الاجتماعية هذه، ولذا كان إغراءً يصعب تفاديه لكتابة تحليل مفصّل لسياقاته وقضاياه، ينقصه البعد الفني والذي يحوي دلالاتٍ دراميّة هو الآخر، وذلك ما أعطى المسلسل رونقه المختلف والمميز.