من الأفكار التي يصل إليها الكثير من باحثي علم النفس الحديث والـ Neuroscience (وهو علم حديث قائمٌ على توليفة تجمع ما بين علم تاريخ الإنسان، وفسيولوجيا وبيولوجيا المخ أو الدماغ، بالإضافة إلى علم النفس)، أنّ الإنسان في غالب الأحيان هو نتيجة للسياق الاجتماعي والنفسي والتاريخي. وإلى حد هنا هي فكرة تقليدية، لكنّه أيضًا، في اعتقاد الكثير من هؤلاء العلماء، نتيجة إلى السياق البيولوجي والجيني. حيث يندمج هنا السياق الثقافي والتاريخي والاجتماعي مع حتميّة الـ DNA، وحتميّة ردود فعل الدماغ مع ما يحدث حوله بميكانيكيّة ماديّة بحت.
غالبًا ما تكون هذه الاستنتاجات الماديّة البحت، والتي ذهب إليها قبل هؤلاء النيورساينسيين الفلاسفةُ الماديون جون لوك وديڤيد هيوم، استنتاجاتٍ مبالغ فيها، وتقع في مطبّ الجدل الواسع في غمار الفلسفة ونظريّة المعرفة، والتي تجعل القارئ يقف موقفًا صادًا ومتحفظًا تجاهها، وذلك رغم وجود الأبحاث العميقة والصادمة في إطار هذا العلم الحديث. إلا أنّها على أيّة حال، أفكار مهمة وتملك جانبًا واسعًا من الصحة. وبالتالي يُمكن استنتاج فكرتين رئيسيتين من خلالها، وهي موضوع هذا المقال. (وقد تكون أفكارًا ذاتيةً أكثر من كونها موضوعيّة).
بدايةً، لا يُمكن لأيّ قارئ متمعّن لهذه الأفكار أن يغضّ نظره عن أهميّتها وتأثيرها الحقيقي، حين الوعي بها وبقيمتها، في إطارَيْ التسامح والتعايش ما بين الأطراف المختلفة. لا تعني الأطراف المختلفة شيئًا هنا أقلّ من الأطراف المتطرّفة، فالتسامح مع الأطراف المعتدلة نسبيًا لا يحتاج لفكرة بهذا العمق، وإنما يحتاج لإنسانٍ عاقلٍ غير مجنون فقط لا غير. إلى هذه النقطة، لا أظنّ أنّ هذه الفكرة فيها أي جديد وقيمة كبيرة. إلا أنّني لا أتوقف هنا عند النظر إلى هذه الأفكار وإلى قيمتها، بل أصل بذلك إلى صعوبة التقييم والحكم الحاسم على تصرفات الآخرين في الحياة اليوميّة حتى. هذه الأفكار، توصل الإنسان إلى تفهّم ظروف وحيثيّات انتحار الداعشي لنفسه، كمثالٍ للتطرّف في التفهّم، أو توصله إلى تبرير موقف السارق الخارج من حيٍّ مذقعٍ بالفقر والتخلف. حيث فهمُ الظروف والبيئة الاجتماعيّة، والتي بالتالي تنعكس على الحالة النفسية للإنسان، وبالتالي تصرّفاته، يُعطي انطباعًا متفهّمًا ومُبرِّرًا لشتى أنواع البشر وتصرفاتهم. هذا أولاً.
ثانيًا، قد تكون الفكرة الأولى مبالِغةً في تطرّفها في تفهّم الآخرين، إلا أنّها قد تكون هي المبرّر الحقيقي للفكرة المتطرّفة التي سأتحدث عنها هنا. نعم، قد يصل بمتّبع المنهجيّة الأولى تطرّفُهُ في تسامحِه حدّ التبرير للداعشي السفّاك، بل وربّما حدّ تفهّم دكتاتوري مريض نفسيًا (كهتلر مثلاً)، ناهيك عن المختلفين معه فكريًا ومنهجيًا أو عرقيًا. إلا أنّه، أي متّبع هذه المنهجية التبريرية، دائمًا ما يصل لبابٍ مسدود في محاولة تفهّم الآخرين وتفهّم تصرّفاتهم. وحينها، يصل الحُكم تجاه الآخرين وتصرّفاتهم حدّ التطرّف. ومن هذه المنهجية التبريريّة المتفهّمة، منها وحدها، يُمكن للإنسان أن يصدرَ حكمًا قاسيًا تجاه إنسانٍ آخر، أو تجاه تصرّفاتٍ مزعجة.
وعلى صعيدٍ آخر، لا يعني تفهّم المختلف، أو المجرم وفقًا لهذه المنهجية أن لا يتلازم ذلك مع حزمٍ في اتخاذ المواقف الأخلاقيّة التي تحاول أن تغيّر في هذا المختلف، أو تحاول أن تصدّ هذا المجرم.
وأخيرًا، ليس هنالك من هو أسوأ ممّن يقوم بما هو سيئٌ بقصدٍ وبمعرفته في قرارة نفسه أنّه سيئ. ولا بد، في المقابل، من محاولة الهروب من هذا الباب المسدود، والذي يكون حكمًا صعبًا وقاسيًا، كثيرًا ما نُخطئ فيه.
11/22/2016