“غير أنّ الرجل الشرقيّ لا يرضى بدورٍ غير أدوار البطولة..”
– سعاد الصباح وماجدة الرومي ومو نزار قباني.
من خلال ارتباطها بشعاراتٍ وصراعات أيديولوجية، تصبح بعض المصطلحات والمفاهيم فخاخًا نقع فيها ولا نجد طريقة للخلاص منها بسهولة. نتداولها باستمرار دون تمحيص دقيق في دلالاتها وارتباطاتها، وهي التي قد تكون مرتبطة بخطابات سلطوية بدرجات متعددة، ما ينتهي بها إلى أن تكون أساطير متداولة في المخيال الثقافي، تؤطّر الحوار والنقاش اليومي والمتداول كما لو كانت شبحًا يطلّ عليها ويسكنها. تحاول هذه المقالة أن تفكك هذه الدلالات المرتبطة بمفهوم “الرجل الشرقي” تحديدًا. المصطلح الذي تستخدمه عدّة أطراف متناقضة ومتضادة في أفكارها وأغراضها وطموحاتها في المشهد الثقافي العربي، متفقةً في دلالاته، مختلفة في استخداماته، وهي التي تقع ضحية المصطلح جميعها على اختلاف أغراضها ومنطلقاتها. يمكن تفريع الدلالات المرتبطة بالمصطلح في لحاظين: الأول هو لحاظ البحث المعرفي الدقيق لفهم تاريخ نشوء وتطوّر المصطلح، ما لن أقوم به في هذه المقالة. أما اللحاظ الآخر، فهو لحاظ استخدام ودلالة المصطلح في الثقافة اليومية العربية، ما أخصص هذه المقالة له.
وإذ نفكك المصطلح، لا نجد مهربًا من استقراء دلالة المقارنة التي لا ينفكّ عنها. فالرجل هنا “شرقي” بالتحديد. ليس عربيًا أو هنديًا أو مسلمًا مثلاً، لكن شرقيا. والشرق هنا ليس شرق الجهات والنواحي والجغرافيا، بل شرق المركز تحديدًا. أو، بالمصطلح الأدق والمباشر، هو الـ orient. الشرق الغريب، شرق الأوروبي المستشرق الذي يحاول أن يفهم كل ما لا يشبهه من كائنات غريبة. إذ أننا وفي تداولنا لمصطلح الرجل الشرقي لا نتحدث عن أقصى الشرق، الرجل الكوري أو الياباني مثلاً، ولا نتحدّث عن الرجل الهندي حتى. بل نتحدث عن الرجل “غير الأوروبي” تحديدًا بمواصفات هلامية. فلا يعرف أحدنا، مثلاً، عن أدوار بطولة الرجال الفلبينيين أو الرجل الفيتنامي. تكاد أن تكون مواصفات الرجال شرق العالم العربي هلامية لدينا بالدرجة نفسها التي ما زالت مواصفات الرجل العربي هلاميةً عند الغرب الذي يبني الخرافات والأساطير عن العرب. ولذا، لا يكون “الرجل الشرقي” هنا بأي مواصفات سوى تلك التي ينحتها المستشرق نفسه، ولا نتداول المصطلح إلا بدلالاته الاستشراقية ذاتها. نفهم “الرجل الشرقي” عبر مقارنته بذلك الأوروبي الأبيض. ففي الحين الذي يقبل الرجل الأبيض بوجود نسائه ونساء منزله في الإطار العام، يرفض الرجل الشرقي وجود المرأة في الإطار العام، كما يلاحظ مثقفو بداية القرن العشرين، أو ربما كما نقلوا من أقرانهم المستشرقين. يحاور الرجل الأوروبي والغربي المرأة كإنسان موازي له، في الحين الذي ينظر الرجل الشرقي إلى المرأة بوصفها أداة جنسية شهوية. إذ تُبنى صورة الرجل الشرقي هنا على فكرة واحدة لا ثاني لها: النقيض من الرجل الغربي المتحضّر المناصر لحقوق المرأة. بل، وذلك الذي يخدم الفكرة الاستشراقية العامة للشهوات الأوروبية في العالم العربي، ما يأتي جنبًا إلى جنب مع تصوير المرأة الشرقية هي الأخرى بطريقة بشعة مثيلة. (١)
وما يجدر ملاحظته بدهيًا هنا هو أنني لست بصدد نفي مواصفات الرجل الشرقي وتعديلها. إذ ليس هنالك ما يُعدّل فيه. يُحاكم الرجل العربي والمسلم تحديدًا هنا بناء على تصوّرات خيالية لا علاقة لها بالواقع. يوضع في قالب خيالي يفرضه الآخرون ويقبل به التيارات المتعددة لأغراض متعددة أسردها في نهاية المقالة، ولها ما يبررها بدقة. لكن ما يجدر قوله في هذه النقطة تحديدًا أنّني أرفض المصطلح والمفهوم كله، لا أرفض مواصفات الرجل الشرقي. قد يكون الرجل العربي والمسلم والهندي بصفات تنطبق أو لا تنطبق مع مواصفات “الرجل الشرقي”، إلا أنها لا يُمكن معاينتها من خلال المصطلح، بل ولا يمكن معاينتها إلا بدءًا من رفض المصطلح والمفهوم الهلامي الذي يفرض تصورات خيالية علينا. وحريٌّ القول أن الرفض هنا رفض لمحكمة المفهوم والمصطلح القسرية هذه، لا رفض لنتائجها. يُمكن أن يتمخّض النقاش الفاحص عن “الرجل العربي” مثلاً عن نتائج وتنميطات تنطبق على الغالب من الرجال العرب، ما لا أفنّده هنا. غير أن الوصول لنتائج منطقية غير كسولة لما هو الرجل العربي وما مواصفاته تبدأ أولاً من نفي “شرقيّته”، أي نفي كل الدلائل التي يحملها المصطلح أوروبي المركزية، والتي لا يُمكن معاينتها.
وإذ أننا نفكّك جزئية “الشرقي” من المصطلح، نجد حتمية أن نفكك جزئية “الرجل” منه أيضًا، أي الجزئية الجندرية منه، ذلك لوعيٍ بالظروف الموضوعية والثقافية المفهومة التي جعلت من تبنّيه ممكنًا. تقبل التيارات المتعددة مصطلح “الرجل الشرقي” لحاجة ماسّة غير ملحوظة ومفهومة في نقاش المثل الجندرية لمفاهيم الرجولة في العالم العربي، وهي التي لا يكون إحالتها إلى تأثيرات غربية محضة إلا جزافًا. لم يكوّن الغرب الثنائية الجندرية ولم يفرضها على الآخرين، وإن أثّر عليها، ما يجعل من نقاش الجندر بتفصيل يتسق مع السياقات غير الغربية ضروريًا.
ولذا، يُمكن القول أن تفكيك مصطلح “الرجل الشرقي” بحاجة ماسة أيضًا لتحريره ومعالجته “جندريًا”. إذ كما أنّ “الرجولة” وما تنطوي عليها من دلالات هي بذاتها ترتبط بمثُل عليا للرجل المثالي الذي يجب على الرجل أن يكون عليها، فالرجل العربي والمسلم هنا يخضع أيضًا لمثل عليا متخيلة لما هو “الرجل” الشرقي، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالافتراضات الجندرية المسبقة في العالم العربي والمسلم. تتشدّد دلالات الرجولة فورما تعطيها بعدها الثقافي، وذلك لأغراض استخدامها إيجابيًا وسلبيًا. فعلى الرجل أن يكون “غيورًا” على عرضه مثلاً ليكون شرقيًا أصيلاً، ما يمكن أن نرى أنها صفة رجولة عليا تسبق مصطلح الرجل الشرقي، لكن تتعزز بمجرد ارتباطها بالدلالات الحضارية المفروضة من الأعلى من خلال المقارنة مع الغرب في المصطلح بذاته. إذ نجد هنا أن الجندر يصبح، بوصفه حالة أدائية في حال مصطلح “الرجل الشرقي”، مشدًّدًا وأكثر تقييدًا للتنميطات الجندرية لواقع الرجل العربي والمسلم، كما أنه أكثر تقييدًا لما يجدر على الرجل العربي والمسلم أن يكون عليه كي يصبح مصداقًا للرجولة. (٢) ذلك ما يحيلنا إلى النتيجة القاسية والواضحة: الرجل الشرقي مقيّد ومنمّط وخاضع لبنية معرفية جندرية أبوية أولاً، ومن ثم بنية جندرية استشراقية، يعيد تدويرها المؤمنون بالجندر كحقيقة موضوعية، كما يعيد تدويرها الاستشراق.
***
“فالرجل الشرقي لا يهتم بالشعر ولا بالشعور
الرجل الشرقي -واغفر جرأتي-
لا يفهم المرأة إلا داخل السرير”
– هالمرة نزار قباني فعلاً، وبكل ابتذال، عام ١٩٦٨.
***
كلا التنميطين، الاستشراقي والجندري، يوحيان بضرورة تفكيك الاستخدامات الأيديولوجية للمصطلح. يستخدم معظم التيارات الثقافية والسياسية المصطلح لأغراض مختلفة، تقف جميعها على أرضية أساسية مشتركة واحدة، وهي ضرورة التنميط الجندري، ما يوصلنا إلى الأغراض المختلفة لهذه التيارات. يجد الإسلاميون والمحافظون المؤمنون ببنى المجتمع التقليدية ملاذًا في المصطلح لتعزيز فكرة الرجل العربي والمسلم المختلف جذريًا عن ذلك الغربي. إذ يستخدمونه هنا لرفض كل ما يريد الغرب “المتخنث” و”الديوث” أن يفرضه على الشباب في منطقتنا. الرجل الشرقي هنا عند الإسلاميين مصطلح إيجابي يراد من خلاله تعزيز التنميط الجندري ورفض خروج المرأة إلى الإطار العام، وحصرها ضمن سلطة أبوية دينية بأدوار تقليدية، كما هي تعطي صلاحيات لنزعات ذكورية تستخدم امتيازات البنية الأبوية ذاتها. فشرقية الرجل هي ما يبرر جرائم الشرف مثلاً وما يسمح للنافذة القانونية الصغيرة التي تعفي الرجال من تحمّل مسؤولية جرائمهم. بل يحيل المصطلح في الواقع إلى فكرة يستخدمها هؤلاء بتأثيرات غربية واضحة، وهي الفطرة والغريزة الطبيعية. إذ أن الرجل الشرقي هو ذلك الذي لم تشوّهه الحضارة والحداثة الغربية، هو الرجل الذي بقي على فطرته وغريزته الطبيعية. وهي الفكرة التي استخدمها علماء النفس التطوري لإيجاد بنية حادة من التنميطات الجندرية بعنوان علمي وطبيعي وغريزي، ما يجده الإسلاميون جاهزًا كاملاً في مصطلح “الرجل الشرقي” بطبيعة الحال.
وبالمقابل، يمكن لنا أن نجد استخدام المصطلح عند تيارات ليبرالية عديدة، أهمها الليبرالية النسوية تحديدًا. تتمثّل عبادة النموذج المعرفي الغربي، وعبادة الرجل والمرأة الأبيضين في مصطلح “الرجل الشرقي” عند التيار الليبرالي والنسوية الليبرالية بوضوح. إذ لا تقوم القراءة النسوية الليبرالية على نقد جذري للبنية الأبوية العربية بذاتها، ولا تقوم على انتقاد التنميط الجندري في السياق الثقافي لفهمه هو بذاته، ولكن تقوم على تقديس النموذج الغربي أولاً، ما يتيح لها أن تنتقد التنميطات الجندرية في السياقات العربية والمسلمة وفقًا لمعيار أسطوري لا علاقة مباشرة للواقع والرجل العربيين به. ما يعزز من التنميط الجندري المسبق لواقع جندري بحاجة لفهم هو بذاته، كما أنه يعزز من الصورة الخيالية والأسطورية التي يأتي بها الاستشراق في فهم الرجل العربي والمسلم. ينتفي النقد الثقافي الجذري هنا عند النسوية الليبرالية، وتنتفي الجذرية في فهم السياقات المختلفة، وتستحيل لتتّفق هي والأصولي المحافظ الإسلامي إلى النتائج نفسها والأفكار نفسها ولكن من جهتين مختلفتين ولأغراض مختلفة. إذ يُنمّط الإسلامي المحافظ الرجلَ العربيّ ليشيع أيديولوجيته وفهمه المحدود والاختزالي لما يعنيه أن يكون المرء رجلاً، بينما تُنمّط النسوية الليبرالية الرجلَ العربي والمسلم لتطعن فيه وتطعن في ثقافتها لنشر أيديولوجيا استشراقية مثلى. أو كما يقول أبو مالح -أو المثل التقليدي- العنز ما تحب إلا التيس الغريب.
من هنا تمامًا، أجد أننا حينما نتحدّث عن الرجل الشرقي فإننا نتحدّث عن أسطورة. تمامًا كما نتحدث عن الغول مثلاً: كائن غريب مخيف بشع لا نعرف أي تفصيل آخر عنه ولا عن سياقه، ولكن نعرف التنميطات الخيالية المرتبطة به. ليس الرجل الشرقي إلا نتاج الحكايات الخرافية التي لا يمكننا أن نستدل عليها ولا أن نضع عليها أصابعنا. غير أن لها وظيفة مباشرة، وهي الهرب من الجهد المعرفي الدقيق في فهم الرجل ضمن سياقه الثقافي المختلف عن ذلك الغربي، كما الخضوع للافتراضات المسبقة لأدائيته الجندرية. ذلك ما يساهم بدقة في وضع الرجل العربي تحديدًا تحت سلطة معرفية أبوية واستشراقية في الوقت ذاته، بدلاً من محاولة تحريره منها. تصبح البنية المعرفية الاستشراقية هذه بالإضافة للبنى المتعددة الأبوية في العالمين العربي والإسلامي، بالتالي، بمثابة الترسيخ لرواية خيالية تقيّد أي تغيير جذري في فهم الجندر والعلاقات بين الجنسين وفق سياقاتها. إذ يمكن للرجل العربي والمسلم أن يكون خلاً وفيًا، ولو أعدنا فحص الواقع والسياق الثقافي، لربما وجدنا أن المستحيلات الثلاث هي الغول والعنقاء والرجل الشرقي…
(١) راجع “اشتهاء العرب”، جوزيف مسعد. يقدم مسعد في الكتاب دراسة دقيقة في فهم الأدبيات التي تحيط بفهم الجنس والجنسانية والشهوات العربية وتأثّرها تحديدًا بالمستشرقين وبالضغوط الإمبريالية على الدول العربية عمومًا.
(٢) راجع التدوينة السابقة: “هلع نظرية الجندر، وجوديث بتلر”. للاستزادة فيما يخص الأدائية الجندرية.