دائمًا ما يتم الحديث المستمر عن مصطلح “الأبوية” باعتبارها البنية الاجتماعية التي تشكل المجتمع العربي. في الواقع، لا يخلو النقد الغربي لبنية المجتمعات الغربية “الحديثة” من وصفها بمجتمعات أبوية أيضًا، كما أنّ التوصيف ينطلي على بقية المجتمعات في العالم. وذلك ما يضطرنا بشكل طبيعي أن نحاول أن نفهم خصائص المجتمع العربي باعتباره مجتمعًا أبويًا، وأن نفهم ما يميّز أبويّة هذا المجتمع عن بقيّة المجتمعات الأبوية، باعتبار أنّ السياق خاص بطبيعة الحال. من هنا تأتي أهمية كتاب المفكر الفلسطيني هشام شرابي “النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي”. ينقسم الكتاب لعدّة أقسام تفصيلية في تفكيك البنية الأبوية للمجتمع العربي، تتمحور في غالبها في زاويتين لا يُمكن أن تقوم زاويةٌ منهما دون الأخرى: التفكيك الجزئي والتفكيك الكلي للمجتمع الأبوي. يحاول التفكيك الجزئي أن يفهم سيكولوجية أفراد هذا المجتمع، في حين أنّ التفكيك الكلي يقدّم نظريةً ماكروسكوبية قائمة على تحليل اجتماعي بنيوي للمجتمع الأبوي العربي. ستحاول هذه المراجعة أن تسلّط الضوء على التفكيك الكلي، حيث أنّ المجال لا يتّسع لأكثر من ذلك.
بدءًا، المصطلح الذي يقدّمه هشام شرابي في قراءته للمجتمع العربي، والذي من خلاله تنساب النظرية، هو مصطلح «الأبوية المستحدثة»، أو Neopatriarchy، كما أطلق عليها في النسخة الانجليزية الأصلية للكتاب. هذا المصطلح الذي يوصّف البنية العربية عند شرابي، هو ما يعطي المجتمع العربي خصوصيته وتمايزه عن الأبوية التقليدية. عند تفكيك المصطلح، يقدّم شرابي دمجًا بين الأبوية والحداثة. فالمجتمع العربي على حد قوله، هو عبارة عن مجتمع متناقض، شكله حديث في حين أنّ جوهره وحقيقته أبوية. أي، تقوم علاقاته الداخلية والجوهرية على هيكلية اجتماعية عمودية، فالأب هو السلطة. ذلك ما يتمثل في الطبقة السياسية كما أنه يتمثل على الصعيد الاجتماعي. فلا يُمكن التخلص من السلطة السياسية الأبوية، إلا وأنتج المجتمع القائم على هذه العلاقات الأبوية سلطةً سياسية جديدة أبوية في حقيقتها. والآن، ماهي طبيعة هذه البنية الأبوية باعتبارها علاقات داخلية أولاً، قبل شرح طبيعتها المستحدثة؟
الأبوية في المجتمع العربي
لا يُمكن فهم المجتمع العربي وبنيته دون فهم طبيعته القبليّة، والتي، بوضوح، تمثّل مفهوم الأبوية بحذافيره. ليس ما تعبّر عنه القبيلة هنا عند شرابي هو القبيلة فقط، وإنما هي تعبّر عن الوحدة الاجتماعيّة الكلية، أو ما يسمى بالجماعة الهرمية. تقوم هذه الجماعة الهرمية بشكل طبيعي على الأنا والآخر، فمن من الجماعة هو من الأنا، ومن هو خارجها هو الآخر. قد تكون القبيلة قبيلة بالمعنى الحرفي، قد تكون دينًا، أو مذهبًا. تكوّن الأسرة الصغيرة بطبيعة الحال نواة هذه القبيلة. غير أنّ ما تتركز عليه قيَم القبيلة ليست قيَم الأسر الصغيرة بتعددها، بل هو قيَم القبيلة الكلية. فالأسرة الصغيرة كوحدة تُهمّش تمامًا كما يُهمّش الفرد، وذلك في صالح قيمة الجماعة. كلما زادت قيمة الأسرة ككيان مستقل، ضعفت الأبوية، باعتبار الأسرة كنواة ذات قيَم خاصة بالأسرة، هي ترتبط بالفردانية وبالحداثة بشكل مباشر، فلا وجود لقيَم خاصة إلا في هذا الاتجاه. القيمة الخاصة هي ما لا تتطابق والقيمة العامة للقبيلة. من هنا يمكن فهم هذه الهرمية التي يقوم عليها المجتمع الأبوي، وهو من خلال إلغاء قيمة الأسرة وذوبانها في قيَم الهرمية الأبوية. ومن هنا، نذهب إلى فهم طبيعة هذه البنية الأبوية المستحدثة، أو شكلها الحداثي.
الأبوية المستحدثة
من أجل أن نفهم طبيعة الأبوية المستحدثة، يحيلنا شرابي إلى “الحداثة” باعتبارها نقيضًا طبيعيًا للأبوية، وذلك من أجل فهم ما يشكّل هذه البنية. يقوم المجتمع الحديث، كما يقول ماركس، على الثورية، كما أنّ ماكس ڤيبر يرى بأنّ العقلانية هي ما يشكّل الحداثة. لا يرى شرابي تناقضًا بين الرؤيتين في توصيف الحداثة، بل هو يراهما مكمّلتين لبعضهما في وضع صفات هذه الحداثة الرئيسية. وبغض النظر عن ذلك، يتفق كلاهما على أنّ الحداثة هي نتيجة طبيعية تأتي بعد تحوّل المجتمعات إلى مجتمعات رأسمالية. وذلك في حين أنّ شرّابي يلامس فكرة الأبوية المستحدثة بعمق حين يشير إلى أنّ ماركس وڤيبر غفلا عن المجتمعات الرأسمالية “التابعة” وغير المستقلة، وهي التي تكون رأسمالية نتيجة للإمبريالية، مما يشكّل صورة حديثة لمجتمع أبوي. هذه الصورة الحديثة هي ما يقوّي ويبقي البنية الأبوية مخفيّةً، وبالتالي مستمرةً دون القدرة على تفكيكها بشكل حقيقي. وذلك لأنّ ما حدث هو أنّ البنية الأبوية تم تحديثها من فوق ومن الخارج، ولم يكن “التحديث” كعمليّة، أصيلاً وناتجًا عن السياق العربي. يوضح شرابي هذا التناقض الكبير بين الشكل والجوهر في طبقة المثقفين الحداثيين العرب، وهو الذي يعتبر هذه الطبقة هي أوضح نموذج لفهم هذا التناقض في الشكل والجوهر. حيث أن الوعي الذي يقوم عليه “العقل المُحدَّث العربي” هو وعي قائم على التقليد، وهنا هو يعني تقليد النموذج الغربي. لا تقوم الحداثة في السياق العربي وخطابه على النقد والتحليل والفهم، بل هي تقوم على محاولة استهلاك المنتج الغربي ونماذجه ووضعها في السياق العربي بتبعيّة واضحة، هي ليست من الحداثة في شيء، بل هي تمثّل الأبوية وقيمها كما هي.
في المقابل، يطرح شرّابي الخطاب النسوي باعتباره خطاب يحاول أن يفكك هذه البنية الأبوية من جذورها، وذلك من خلال قراءة “فاطمة المرنيسي” و”نوال السعداوي”. فباعتقاده، تسليط الضوء على ذكورية المجتمع العربي هو ما يضع يده على أبويته بشكل مباشر، وذلك ما لم يتمكن مثقفو الحداثة من فعله قبل الخطاب النسوي. النسوية هنا، بطبيعة الحال، هي حل حقيقي من الممكن أن يضعه شرابي في مقابل البنية الأبوية، حيث أنّ النقد الذي تقدمه هو نقد راديكالي، وذلك ما حاول أن يوضحه من خلال تحليل خطاب المرنيسي والسعداوي على حدٍّ سواء. يبدو شرابي هنا كمن يعوّل على النسوية باعتبارها قوة كامنة قادرة على تفكيك العلاقات الداخلية للمجتمع الأبوي، وإن كان ذلك بإسهام بسيط على مستوى الخطاب، مما ينتهي بتغيير العلاقات الأبوية ككل، وليس بين الجنسين فقط.
الآيديولوجيا والمجتمع الأبوي المستحدث
في نهاية التفكيك الكلّي للمجتمع الأبوي، يوضّح شرابي بأنّ المجتمع يقدّم تيارين جذريين لمواجهة الأبوية هذه، وكلاهما لا يعبر سوى عن آيديولوجيات لا يُمكنها تقديم التغيير التقدمي لتجاوز الأبوية المستحدثة. فالأول، هو الآيديولوجيا الأصولية الإسلامية، والتي تنتهي بالتعريف بأبوية سلطوية هي أسوأ من تلك المستحدثة، في مقابل الآيديولوجيا العروبية-القومية. نقد شرابي للقومية هنا جذري ومهم، فهو يرى أنّ ما تقوم به القومية هو مجرّد استبدال القبيلة الصغيرة بالقبيلة الكبيرة -القومية-، مما يعني استمرارية لقيَم الأبوية، وبالتالي رجوع الأفراد لانتماءاتهم القبلية الأساسية. القومية هنا تضع التاريخ في مقابل الغرب كما تفعل الأصولية الإسلامية تمامًا، وذلك ما يعبّر عن حركة أبوية في جوهرها لا يمكن لها أن تصل إلى الجماهير التي تعيش الأبوية في كل يوم. حيث أن تغيير الشعارات دون تغيير البنية بذاتها لا ينتهي سوى بإخفاق على مستوى الجماهير.
ختامًا، لا يُمكن فهم شرابي ونظريته المتكاملة دون فهم الجزء السيكولوجي والذي يركّز على صفات الفرد العربي، والتي بطبيعة الحال تنعكس على بنية المجتمع الاجتماعية والسياسية، وذلك ما لا تلامسه هذه المراجعة. إلا أنّ السؤال الذي تحاول أن تلامسه هذه المراجعة، هو عن مدى تخلّص شرابي، في هذا التحليل المجمل للمجتمع العربي، من نقده هو نفسه، وعدم وقوعه في المطب الذي يدّعي أن الآخرين وقعوا فيه، وهو التقليد المحض للنموذج الغربي. حيث يضج الكتاب، كما يُمكن للقارئ الفاحص لهذه المراجعة أيضًا أن يلاحظ، بأفكار ماركسية من هنا وهناك، كما أن باقي أجزاء الكتاب مليئة بالاستشهادات من الغرب، واستخدام أدواتهم. يتلازم هذا التساؤل مع شرط شرابي نفسه بضرورة الحداثة في المضمون لا الشكل، حيث ذلك ما يمكنه أن يحكم على الكتاب. هذا، ما لا يتنافى طبعًا مع ضرورة قراءة الكتاب كمشروع جاد ونادر في قراءة وفهم المجتمع العربي وتفكيكه، وهو ما لم يقابل بما يستحق من مقروئية عند القارئ العربي عمومًا.
(*) نُشر المقال في مدونة ثنايا في تاريخ 12\24\2018