سيرة اسميّة: تأملات ذاتية وهوياتية في اسم “علي”
مثل أي علي في سيهات والقطيف، كان اسمي ضائعا بين العليّين. لم يكن يخلو صف في المدرسة من أقل من خمسة عليِّين، ولهذا تكون العائلة هي الملجأ في هذه الحالة. يناديني الجميع هناك بـ “مطرود”. وين راح مطرود وتعال يا مطرود. يعرفني الجميع بـ “مطرود”، ويبقى “علي” الذي في داخلي في داخلي، ولا أدري ولا يدري عنه أحدٌ شيئًا..
لم يخلُ بيت جدي من العليين أيضًا. إلا أنّ لقب العائلة بات ملجأً صغيرًا، فالجميع “مطرود” هناك مثلاً إلا استثناءات بسيطة.. هنا يتعرّف الاسم على الواقع قليلاً، ولكن قليلاً فقط، فاسم الأب مرافقٌ دائمًا. “علي محمود“، والذي كان يذكّر جدي دائمًا بالشاعر المصري المعروف، فلم ينل الاسم استقلاله بعد. لا تفهم الأمّ في العادة تعدّد العليين هذا، فعليُّها واحدٌ أوحد، ولهذا حين نادت زوجة عمي عليَّها ذا السنة والنصف التفّ البيتُ بأكمله ظانًا أنها تعنيه، قبل أن ألتفّ أنا نفسي منزعجًا ممّن يشاطرني اسمي..
أمي كذلك لا تفهم هذه العوائق والخرابيط، ولهذا يشعر اسمي في البيت، بيت الأسرة الصغيرة، بفرادته واستقلاله أخيرًا. في طفولتي هناك فقط يبدأ بالتعرّف على ذاته واستقلاليته وفرادته، على الرغم من تكراره في كل مكان.
لا يحتاج الاسم أن أتلو حمولته الدينية التاريخيّة، والتي كنت ممتلئًا بها، كي تعرف كم كان كافيًا ليمنح صاحبه نرجسيّة لاقترانه بمن ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير. إلا أنه كان غريبًا دائمًا، غريبًا وسط هذي الجموع العليّة كلها.
لم أعتقد أنني سأجد فرادة للاسم حين أقمت في أورغن –أمريكا– للدراسة. شيعة علي في كل مكان، يعني علي في كل مكان. إلا أن المفاجأة كانت أنّني العليّ الوحيد في مدينتي الصغيرة.. نعم كثير من الـ Alis عند الفتيات الشقر يزاحمنني عند استلام كوب القهوة من ستاربكس، لكنني العلي الوحيد. لأكثر من سنةٍ ونصف كان يستمتع الاسم بحريّته واستقلاليته في كل مكان.. معظم من يعرفني لا يعرف لا اسم أبي ولا اسم عائلتي، وذلك كان يمنح الاسم نشوتَه القصوى بهذه الاستقلالية، ناهيك عن صاحبه الذي اعتاد ذلك جيدًا.
سنة ونصف، وذلك قبل أن ألتقي علي–رضا، إيراني يجهّز الدكتوراه وعلى وشك إنهائها، أشعرني بالضيق لمزاحمته المتواضعة، قبل أن يعوّض ذلك بحديث شيِّق. أقول مزاحمةً متواضعة لأن علي–رضا اسم مركّب، يشتهر به الشيعة عمومًا والإيرانيون خصوصًا.
لم يلبث الحديث عن الاسم المركب مع علي–رضا لأن يتحوّل إلى الحديث عن الهويّة الشيعية في إيران، والذي بشكل طبيعي جدًا انساب لأن يكون حديثًا عن الوضع السياسي هناك. اندهش علي–رضا كثيرًا لمعرفتي بتفاصيل السياسة الإيرانية، فلم يلبث الحديث أن أتى بأسماء مثل رفسنجاني خاتمي ومير حسين موسوي، ناهيك عن الحديث عن الشخصيات المعروفة اليوم مثل روحاني وظريف وخامنئي. ولهذا بحت له سريعًا بأني لا أشاطره اسمه فقط، وإنما أشاطره الهويّة المذهبية المرتبطة ارتباطاً وثيقًا ببلاده اليوم. كان المثير للاهتمام بشكلٍ كبير أنّ هذا الحديث الشيّق كله، والعلاقة الوطيدة التي تكوّنت بيني وبين علي–رضا وزوجته والذي كان بكل تأكيد أكثر حقيقيّة وعفويّة من الحديث مع معظم السعوديين في تلك المنطقة، كان نتيجةً للهوية المذهبية–الثقافية تلك، وإن كان الحديث في ماهيّته خروجًا على هذه الهويّة بكاملها. الهويّة ذاتها التي انتزعت الفرادة منّا منذ الولادة بتسمية بدافع جمعي، يلغي فرادة الاسم، ويدل على المشكلة الجمعيّة الهويّاتيّة.
*نشر متأخر للنص، وهو الذي كُتب في لبنان في أوغست من صيف 2018.