يُدهشني، عندما نتحدث عن التجاوز، أنه يصعب على أولئك المنادين بضرورة تجاوز الماضي وعدم التعلق به، يُدهشني أن هؤلاء بنفسهم يترددون بشدة من النطق بضرورة تجاوز الموت. لن يتجرأ أحدٌ على حث يتيمٍ على تجاوز موت أبويه بسهولة مثلاً، بل وسيكون تعلّقه بهما طوال عمره مبررًا. غير أننا يُمكن لنا بسهولة أن نتحدث عن ضرورة تجاوز العلاقات السابقة.. يحث الأصدقاء بعضهم على تجاوز صداقةٍ خلَتْ، وأنّه لا بد على الإنسان أن يتجاوز لحظاتٍ عبرت وأضحت من الماضي. بل إن فكرة التجاوز تُصبح ضرورة لا شك فيها عند الحديث عن العلاقات العاطفية، ويصبح الأمر ملحًا بدرجة أكبر حينما يكون طلاقًا بالطبع. كما أنّه يُمكن لنا أن نرى أن التجاوز فكرة تقدميةً حينما نتحدث عن نوستالجيا حضارات سابقة وعن تقدّم حضاري عربي -مثلاً-، أو حتى عن أمجاد فريق كرة قدم. إلا أنني أجدني متوترًا وبحاجة لنقض فكرة ضرورة التجاوز على الدوام. إذ أجدها فكرة ثقيلة أولاً، وغير واقعية في أحيان كثيرة ثانيًا، ما سأحاول أن أبرره في القادم.
يُمكن تعريف التجاوز بنقيضه، إذ أننا نتجاوز الشيء حينما نتوقف عن التعلّق به. أي أنّ التجاوز عمليّةُ نقضِ التعلّق في المقام الأوّل، ولربما يُمكن لنا أن نقول بأنّنا كلما تحدثنا عن ضرورة التجاوز نتحدث في المقام الأول عن ضرورة عدم التعلّق. التعلّق هنا هو ما يُشكّل عقبةً أمام النظر إلى المستقبل والأمام والمضيّ إلى حيواتنا. ذلك ما يحيل بالضرورة إلى فهم التعلق بذاته وفهم مشاكله، وهو الذي يوقعنا بالطبع في مشكلة تعدد أسباب التعلّق عمومًا. غير أننا يُمكن لنا أن نتساءل، على أقل تقدير، عن أسباب عدم القدرة على التجاوز- أي أسباب استمرارية التعلّق، كما أنّه يُمكن لنا أن نُسائل ونتحقق من ضرورة التجاوز نفسها فعليًا، وإذا كانت واقعيةً أم لا، ما يتعلّق بأسباب استمرارية التعلق ذلك نفسه.
لماذا نبقى متعلقين ونعجز عن التجاوز؟
في كل مرة شعرتُ بحاجةٍ فيها لتجاوز شيءٍ ما وفشلتُ في ذلك أجدني دائمًا في مواجهة مع حاجة ضرورية وأساسية من حياتي. أي، لا يبقى التعلّق موجودًا وفاعلاً إذا ما انتهت أسباب وجوده، وإذا ما وجدنا ما يلبي الحاجة التي اقتضت أن نتعلّق بذلك الشيء الذي انقضى. يتحدث جمهور نادي الخليج في مدينتي الصغيرة سيهات دائمًا عن بطولاتٍ في كرة اليد قبل ما لا يقل عن الخمسة عشرة سنة، ويتحدثون عن حضور الجمهور ووجود الشغف المتعلّق بمساندة أبناء القرية الصغيرة سابقًا، وكيف كان ذلك متعلّقًا بهوية أكثر تعقيدًا أيضًا على الدوام. أقول: يتحدث الجمهور عن ذلك في كلّ مرةٍ نجد الخليج عائدًا وخائبًا في إحدى البطولات التي نخسر فيها أمام أحد الجيران. لا ينبعث الحنين إلى ماضٍ بعيدٍ، ولا نرى التعلّق واضحًا إلا عندما نرى حاجةً واضحةً له لم يعد نادي الخليج يلبيها: البطولات والمجد المرتبط بالقرية والهوية.
بدأتُ هنا بالمثال الرياضي، غير أنني لا أجده مختلفًا على الإطلاق عن علاقةٍ عاطفية، موت، أو حتى ما يتعلق بحضارات ومجدٍ أممي. لا يُمكن لوم فتًى انقضت علاقته بفتاة على تعلّقه إذا لم يتمكن من ملء الفراغ الذي تركته، كما أنّه لا يُمكن لوم أي عربي عاش وما زال يعيش أحلام الناصرية حينما لا أحلام في الأفق. ما أستخلصه من ذلك أن للتعلُّقِ أسبابه المنطقية والمبررة.
بالطبع لا يقول المنادون بالتجاوز بأنّه على الإنسان أن يتجاوز على الرغم من وجود أسباب التعلق. بل هم يؤكدون على ضرورة سرعة التجاوز بالطريقة التي يستوجبها.. غير أنّ ما أريد أن أضيفه هنا هو أن ما يقتضيه الذي ذكرناه سابقًا هو أنّ المنادين بالفكرة يقومون بإثقال الإنسان بفكرة التجاوز حينما لا يُمكن لها أن تكون طبيعية. أي، التأكيد على ضرورة سرعة التجاوز هو محاولة قسرية للرفض والهروب من الأسباب التي خلقت التعلّق في المقام الأول. للتعلُّقِ عمره الطبيعي الذي يجب عدم اغتياله إطلاقًا، إذ هو -أي هذا العمر الطبيعي- ما يدفع الإنسان للتجاوز وليس العكس.
هل يجب علينا أن نتجاوز دائمًا؟
كل ما تحدثنا عنه في الأعلى لا يتجاوز كونه تسليم بأن التعلّق ضار. التعلّق في الجوانب المتعددة تلك أشبه بالإدمان، إذ أننا نهرب من واقعنا إلى تلك المخدرات التي تُشعرنا بأن الخلاص في غير هذا الواقع، ولذا نبقى فيه. لكن، ألا يمكنك عزيزي القارئ أن ترى الإجابة بين السطور؟ نعم، يُمكن القول دائمًا بأن الواقع سيئ ولا بد من استبداله. والحديث عن الواقعية ومحاولة العيش في الواقع بشكلٍ تام قد يكون عدميًا، أو ربما امتيازًا يحظى به قلّة. أجدني دائمًا توّاقًا للهروب من الواقع، بل ومحاولة تغييره. لا يُمكن لنا أن نرى تقدّمًا على كل المستويات سوى بهذه الأحلام: نحن بالحلم نغيّر واقعنا.
طبعًا، لا يُمكن لنا أن نعود من نقطة الحاضر إلى نقطة الماضي. هذا إن تحدثنا عن التجارب باعتبارها متلازمة خطيًا مع الوقت والتاريخ. غير أنّها ليست كذلك. في التاريخ عوامل يُمكن إحياؤها، بل وهي حيّة عند غيرنا. الحديث عن التاريخ بوصفه ماض محض وأن كل رجوع له هو رجعيّة لا واقعية هو اللاواقعية بذاتها. نعم، يُمكن للإنسان أن يسترجع علاقةً قديمة. إن لم يسترجعها بنفس شكلها ومضمونها سيسترجع جزءًا منها، كما أنّنا وبكل تأكيد يُمكن لنا أن نرى وحدة عربية. لا أريد أن أتجاوز علاقاتي بشكلٍ مطلق، كما أنني بالطبع لا زلت أحمل حلم الوحدة وإيجاد أمة تتجاوز الحدود القطرية بطريقة حديثة ما كما يفعل الأوروبيون. ما أجده هو أنه من بالغ السوء أن نتجاوز كل ما كان في الماضي. يكاد يكون أهم ما يكوّننا هو تلك الأشياء التي نتعلّق بها بعد مضيّها، والحديث عن محاولة التجاوز التام لهذا التعلّق الذي أضحى جزءًا لا يتجزأ من تكويننا هو إجحاف بحقنا نحن في المقام الأول. نعم، يُمكن تعريف التجاوز بأنه تجاوز “الشعور” المرتبط بتلك اللحظة، وهو الذي يجب أن يتجاوز وجوده الإنسان. غير أن الشعور الحقيقي لا يفنى بل يتخفى. أؤمن، ختامًا، أنّ للإنسان قدرتُه في اصطحاب تاريخه وماضيه معه حينما يصنع حاضره ومستقبله، بل وأؤمن أنّه لا يوجد أي شرطٍ آخر للتجاوز الفعليّ وغير الوهمي للماضي.
فكرة واحدة على ”ملاحظات في نبذ التجاوز“