وحده هيمنغواي من يعرف الشجاعة
لطالما كانت الفكرة الأكثر ترجيحًا في اهتمامي بالأدب هي أن أبحث عما يوسّع الأفق، وبالتالي عما يحوي بداخله دلالاتٍ تولّد تأويلات متعددة. تلك القادرة على اكتشاف شيء ما في هذا الوجود، كما يحب أن يقول كونديرا. ذلك ما لا أجده عند الكاتب الأميركي الأشهر على الإطلاق: إرنست همنغواي.
لم تكن قراءة الشيخ والبحر لحظة مفصلية في حينها فقط، وذلك على مستوى التأثير في الموضوع البسيط الذي تتناوله، بل كانت قراءة مفصلية أيضًا في النظر إلى دور الأدب بالمجمل. إذ، ومن خلال همنغواي فقط، يمكننا أن نرى نوعًا أدبيًا منتصفًا، يقع ما بين الأدب للأدب، ذلك الذي ينظّر له كونديرا في أفضل الأحوال، وما بين “الأدب الرسالي”، ذلك الذي لا يمكن أن يتجاوز كونه وعظيًا أو أيديولوجيًا. فنوع همنغواي هذا الذي يقع بينهما ذو فكرة واضحة مباشرة، وليس أدبًا للأدب المحض على الإطلاق، إلا أنها فكرة بديهية غير رسالية.. ذلك ما يجعلنا نقول أن هذا النوع الأدبي هو نوع همنغواي وحده.
يتمكن همنغواي بكل عفوية من أن يكون كاتبًا بمثابة الفأس القادر على أن يكسّر الجليد في رؤوسنا، كما يقول كافكا. لم يطبّق كافكا مقولته في رواياته أو قصصه، إذ كانت تحيل باستمرار إلى تأويلات عديدة رغم تأثيرها. غير أن همنغواي كان ذلك الفأس بذاته: الفأس القاطع حاد وواضح الدلالة، من يضع الإنسان أمام حقيقة واحدة لا ثاني لها، وأن ينهي التعدد في مقابل الوحدة، وأن ينهي الفكرة في مقابل الحق.
بهذا الوضوح نجد همنغواي في الشيخ والبحر، وبهذا الوضوح نجد سيرته الذاتية حتى. غير أننا، ودون الرجوع إلى سياقه العام، يمكننا أن نجده بهذا الوضوح القاطع في قصته “حياة فرانسيس ماكومبر القصيرة السعيدة”، إذ يضعنا وجهًا لوجه مع مفهوم الشجاعة.
ليس الأمر بمزحة على الإطلاق. يضعنا همنغواي أمام الإصرار والتحدي والرجولة بوضوح في الشيخ والبحر، ونجده قديرًا على القبض على هذه المفاهيم. هي نفس المفاهيم المكرورة التي نتحدث عنها بإعجاب في آن، وبغموضٍ في آن، دون أن نقبض عليها بالضرورة، لكننا نجده بالمقابل ماسكًا بها كما لو كان يمسك جوهرةً لطالما سمعنا عنها وها نحن نراها أول مرة. ذلك ما يفعله همنغواي مرةً أخرى في حياة فرانسيس ماكومبر، القصيرة السعيدة، والتي قبض فيها على ما تعنيه الشجاعة بوضوحٍ بالغ، وهي موضوع هذه المقالة والتحليل القادم.
تبدأ القصة بشكلٍ بسيط للغاية: امرأة أميركية على الطاولة تهزأ من زوجها الجبان في قبال صيّادٍ محترف. يصحبهما الصياد البريطاني في أدغال أفريقيا لممارسة الهواية البيضاء المثيرة للشفقة: اصطياد الوحوش. فعلى الرغم من الكثير من الاحتياط والوقاية للحفاظ على سلامة هؤلاء الأميركان والأوروبيين الذي يصطادون الوحوش للترفيه، من سلاحٍ وسياراتٍ بل وحتى عبيد يساهمون في ذلك الأمن، إلا أن فرانسيس، زوج المرأة إياها، أظهر جبنًا وخوفًا هائلين، ما أثار ضغينة وحقد زوجته واستهزاءها الحاد به. فزوجها لم يكن مثيرًا للشفقة فقط في جبنه وخوفه الحقيرين أمام الجميع، بل أتبعهما بتصرفات رجلٍ مهزوز بالكامل لا يمكنه أن يتجاوز لحظة الجبن تلك حتى بعد انقضاء الموقف، ما يوضّحه الصياد البريطاني بوضوح.
يستمر استهزاء مارغوت حتى الوصول إلى مغازلتها الواضحة للصياد البريطاني بحضور زوجها، بل ويصل ذلك في السرد حد تلميحٍ قد يكون واضحًا لخيانتها لزوجها الجبان مع ذلك الصياد الشجاع. تلك الخيانة التي لم تبدأ من اكتشاف جبن زوجها في القصة، لكنها يبدو أنها تنتهي هناك. إذ بدت تصرفات فرانسيس كما لو أنها كانت الخيانة الفارقة في شخصيته كلها، إذ يقرر أخيرًا أنه لا بد أن يمسك بزمام حياته وأن يعيد زوجته إلى حضنه، بمواجهته لجبنه، وأن يصبح شجاعًا.
وهنا يضع همنغواي التحدي بالغ الصعوبة ذلك في وجه القارئ: كيف يمكن للإنسان أن “يصبح” شجاعًا إذا ما كان جبانًا في الأصل؟ هل ذلك ممكن أصلاً؟ ما الذي يعنيه أن يبدأ فرانسيس رحلة التحول إلى الشجاعة؟
من هنا، وبعيون الصياد البريطاني، نرى رحلة غيرة فرانسيس التي تدفعه دفعًا لتغيير حياته بالكامل. يؤكد الصياد أن رحلة اصطياد الوحوش بالنسبة للطبقات المرفهة هي أصلاً لهذه الغاية، لغاية وضع الإنسان في مكان يمكنه أن يشعر فيه بشجاعته وقوته. تلك الرحلة المنظمة من أجل ذوات هؤلاء المرفهين الهشة هي رحلة نافعة بالفعل في زيادة ثقتهم بأنفسهم. غير أنه يؤكد في الوقت نفسه أنه لم يرَ مثيلاً لتحوّل فرانسيس المخيف، كما أنه لم يكن من المتوقع على الإطلاق. يفور دم فرانسيس كما لو كان تحت تأثير مخدّرات منشّطة، تجعل منه رجلاً نشوانًا من شدة الإثارة التي يتطلبها الموقف. إذ أصر فرانسيس على اصطياد الوحوش في اليوم التالي لما يظنه خيانة زوجته له، وهي التي تصر على أن تصحب فرانسيس والصياد. يفور دمه فور رؤيته للوحش الأول والثاني، تلك الفورة التي يصفها همنغواي بوضوح: تلاقي الخوف والرغبة في تجاوز الخوف.
يلتقي هنا المفهوم التقليدي للشجاعة مع توصيف همنغواي بوضوح. إذ “إذا هبت أمرًا فقع فيه” تتمظهر في فرانسيس تمامًا: إنه الذي يشعر بفورة دمه خوفًا من الوحش، غير أنه يصمم، ولدافعٍ شخصي حقيقي، أن يتجاوز ذلك الخوف. هنا تمامًا، في لحظة مواجهة الخوف، وفي لحظة الوقوع فيما يخيف فرانسيس، نجد شجاعته تتكوّن كما لو كانت خلقًا من عدم. ذلك الدافع الشخصي في استرجاع احترام زوجته، وفي استرجاعها من ذلك الصياد بالتحديد وعلى مرأى منها ومنه، كان دافعًا أشد وقعًا على دمه وفورة دمه من وقع الخوف نفسه. يوضّح همنغواي هذا التناقض الصارخ في القصة بين الخوف والدافع الآخر الأكبر أثرًا، لنجد فرانسيس وقد أصبح شجاعًا بالفعل بعد عدة أحداث بسيطة.
بهذا الوضوح في الرؤية، وبهذا الفهم الدقيق للصفة التقليدية والأبدية، يعلن لنا همنغواي أننا أمام مرآة حقيقية. تلك المرآة التي لا يمكننا أن نهرب منها، والتي لا تزيّف لنا الواقع ولا تزيّف لنا أنفسنا. يشرّح لنا مفهوم الشجاعة كي نكتشف جبننا، ويشرّح لنا مفهوم الجبن كي نكتشف شجاعتنا. يتجاوز بذلك همنغواي كل ما نعرفه من أدبيات علم النفس ومن أدبيات كيمياء الدماغ وكل ذلك، ليقول: لا، الأمر أكثر بساطة.. هل أنت شجاع أم أنك جبان؟ لا بينٌ بين البينين. طيب، كيف يمكن أن تصبح شجاعًا؟ نجد المسألة بسيطة ومباشرة للغاية رغم كل المبررات الأخرى، فنحن أمام أفكار أولية لا تحتاج لمعالجة معقدة.
أو بالأحرى نحن أمام ذلك الفأس الموجّه نحو الجليد في رؤوسنا، ونراه يتكسر ليصبح أمواجًا تتلاطم، ورؤية واضحو لأول مرة لما تعنيه مفاهيمنا الأولية البديهية.