كيف أفلتت الست من قبضة معايير الجمال؟
من المبرر والمفهوم للغاية أن يعتقد المعجب بأم كلثوم أن الإجابة البديهية على عنوان/سؤال هذه المقالة هو أن صوت وأداء أم كلثوم والحالة الفنية التي دارت حولها هي أصلاً حالة استثنائية بكل تفاصيلها. إذ أن أم كلثوم أسطورة بالمعنى الأدبي الكامل للكلمة: ليس من المهم ما كان حقيقيًا وما وقع على أرض الواقع فيما يُسرد عن الست، بل أن استثنائيتها وصلت حد أن القصص، الشخصي والاجتماعي منها بل والسياسي، تتوزع سرديًا على الناس باستمرار دون حدٍ يوقفها. أضحت الست، خصوصًا في القرن الواحد والعشرين وبعد عقود من وفاتها، رمزًا لا يُمكن حصره في معاني محددة وقصص موثقة، بل هي تنتشر كما تنتشر الأسطورة: مثيرةً للإحالات والدلالات والأفكار والمشاعر بدون انتظام.
غير أننا هنا لا ننظر لأم كلثوم الأسطورة، كما لا ننظر لأم كلثوم المرأة والإنسان فقط. بل ننظر لأم كلثوم بوصفها “شاهدًا على العصر” وعلى تحولاته. إذ لا يمكن أن يكون سبب الإفلات من قبضة معايير الجمال هو أسطورية “أم كلثوم”، وقدراتها الفنية وغير الفنية، بل هو سياق تاريخي كامل. ليست أم كلثوم، بكامل جبروتها، خارجةً عن التاريخ، كما أنها ليست رجلاً قد يغفل المستمع والمهتم شكله وجماله. بل كانت أم كلثوم، بكل ما تمثّل، مجرد عامل من العوامل المتجانسة مع اللحظة التاريخية. اللحظة التي تمثّل الحافة التي تسبق منحدر التأثير الغربي الثقيل فيما يخص الجنسانية ككل، ومعايير الجمال بالخصوص.
هل كانت معايير الجمال حاضرة في المجتمعات الشرقية؟
يحاول الخطاب الغربي والاستشراقي عمومًا، وبشتى الطرق، أن يقدّم العالم العربي والإسلامي بوصفه عالمًا متطرفًا في التعامل مع المرأة والجنس بصور نمطية سائدة. إذ يمكن أن نلاحظ أن التصور العام هو تشييء المرأة بشكل كامل، وذلك ما تهدف إليه تغطيتها. كما أنه لا يفرّق حينما يصوّر المرأة بدقة بين المجتمعات: إذ ترتدي المغربية كما ترتدي المصرية كما ترتدي اليمنية بل والأفغانية. غير أنه، ولو افترضنا دقته في تشييء المرأة من خلال محو أي أثر لها، يغفل الحيوات المختلفة التي تعيشها المرأة في مجتمع أقل تنظيمًا وحداثةً من المجتمع الغربي الحديث، بل ويعجز حتى عن القبض على تعددها. ولو سلمنا أن آثار المرأة تم محوها في العالم العربي، نجد أننا نصل في النهاية إلى معايير جمال غير مطبّعة في الإطار العام، كما أنها لا تخضع لتأثيرات خطاب مركزي.
وعلى خلاف المجتمعات الأوروبية ما بعد صعود القومية والتنوير والحداثة، لم يكن هنالك هندسة كاملة لما يجب على المجتمع أن يكون عليه فيما يخص أي شيء في بقية المجتمعات، ناهيك عن معايير الأنوثة والجمال. بل، ويمكن القول بسهولة فائقة، أن المجتمع العربي عمومًا كان أكثر تعددية من المجتمعات الغربية فيما يخص الجنس والجنسانية ككل، ولكن ذلك في نقطة محددة أساسية، وهي قبل دخول معايير الجمال إلى العالم العربي مرافقةً خطاب الحداثة والتنوير. إذ كانت السياحة الجنسية لدى الغربيين في مصر والمغرب ولبنان، كما أن الأشكال كانت بكل تأكيد أكثر تعددًا. ولذا، نجد أن العروج على فهم نشوء هذه المعايير في الحداثة الغربية فيما تحويه من نظرة مسيحية أولاً، ونظرة علموية ذات منطلقات مسيحية ثانيًا، هو عروج ضروري. وذلك قبل العودة لتحديد النقطة التاريخية لدخول معايير الجمال، والتي ظهرت قبلها الست أم كلثوم بوضوح.
كيف انبثقت معايير الجمال؟
لا يمكن فصل معايير جمال المرأة عن البنية الرأسمالية والخطاب المرافق لها، سواء كان مسيحيًا أو علمويًا، ما وصل ذروته في العصر الڤيكتوري تحديدًا. لست هنا بصدد نفي وجود معايير جمال للجنسين قبل الثورة الصناعية، ولكن بصدد نفي “وحدة” معايير الجمال بالشكل الذي نعرفه اليوم. كانت معايير الجمال فائقة التعدد وفقًا للثقافة والمجتمع التي تكون فيها، غير أنها توحدت في العالم ككل حينما توحد العالم كله أصلاً تحت قبضة “الحداثة” و”الاستعمار”. إذ رافقت الآلة الرأسمالية المسؤولة عن التقدم، رافقتها رؤية مسيحية منسجمة بدرجة كبيرة مع رأس المال. يحتاج الاقتصاد لأدوات إنتاج كما أنه بحاجة لمستهلكين، ذلك ما ينتهي بضرورة هندسة المجتمعات بشكلٍ متسق مع الآلة الرأسمالية. من هنا تحديدًا يتم ضبط الزواج، والأسرة، ومعايير الجمال..
في الآلة الرأسمالية حاجة لوجود منتِج (وهو هنا الرجل) ومستهلك (وفي الغالب يكون امرأة)، ولذا تكون صورة الأسرة التقليدية القائمة على أن تكون المرأة ربة منزل بشكلٍ مطلق وأن يكون الرجل هو المنتج العامل في المصنع، هي أهم الروافد التي تغذي الحركة الاقتصادية الإنتاجية. ومن هنا، يكون دور المرأة واضحًا: أن تدبر المنزل وتحدد حاجياته التي لا بد من شرائها، كما أنها لا بد أن تكون جميلة.
ليس سرًا أن هذا لم يكن الشكل الأبدي للمجتمعات الإنسانية. كانت تعمل المرأة خارج المنزل في الزراعة وحتى في الصيد، كما أنها، وعلى الرغم من الالتزام بأدوار تقليدية مرتبطة بتدبير المنزل قبل رأس المال أيضًا، إلا أنها لم تكن تلعب الدور الاستهلاكي هذا بالضرورة في جميع المجتمعات. (إذ يصعب أصلاً فهم الاستهلاك كما نفهمه اليوم قبل رأس المال الصناعي). غير أن ضرورة تحديد الإطار الذي يجب على المرأة أن تتصرف وتبدو وفقًا له هي ضرورة اقتصادية في المقام الأول، مرتبطة ارتباطًا جذريًا برأس المال، وشكل المجتمع الصناعي ذلك الذي أتى عقب الثورة الصناعية في أوروبا.
من هنا يبدو التحدي في التتبع التاريخي هذا ملحًا. إذ هل يمكن تتبّع قيمة الجمال بوصفها قيمة أساسية في التعامل مع المرأة في العالم العربي، دون ربطها برأس المال والاستعمار؟ هذا ما يقوم عليه عمل جوزيف مسعد المهم للغاية: “اشتهاء العرب”. يؤكد جوزيف مسعد في كتابه على أن كثير مما نفهمه اليوم عن الجنس والجنسانية، معايير الجمال والميول المثلية، وكل ذلك، هو في حقيقته مرتبط بشدة بالاستشراق والتصورات الحداثية أصلاً في هذا الإطار، ما لم يكن بالضرورة موجودًا في العالم العربي. يقرأ أولاً الخطاب والسياق العربي قبل تأثره بذلك الغربي، والذي يؤكد من خلاله تعددية المجتمع العربي فيما يخص معايير الجمال والهويات الجندرية، والذي يؤكد أنه تم تقنينه من قبل قيم تأثر العالم العربي بالقيم الڤيكتورية.
ومن المبرّر السؤال عن القيم الڤيكتورية هذه بالطبع، وهي التي لا تبتعد تمامًا عن تلك المرتبطة بقيم الأسرة التقليدية التي تفترض جلوس المرأة في المنزل وتفترض أن ما هو “صحيح” أخلاقيًا هي الأسرة النووية التقليدية. غير أنها في الوقت نفسه أيضًا علموية بدرجة كبيرة أيضًا. إذ يترافق مع القيم المسيحية هذه التي انسجمت مع رأس المال، قيم علموية في الوقت نفسه. تنطلق القيم الڤيكتورية من لحظة آيديولوجية حاسمة: الداروينية. لم تنتشر نظرية التطور فقط بوصفها نظرية بيولوجية تناقش تطور الأنواع. بل هي في تلك اللحظة الحاسمة التي يمكن القبض عليها زمنيًا حتى، وهي التأكيد على أن الفوارق الجندرية -أي الفوارق الاجتماعية بين الجنسين- هي في حقيقتها فوارق “تطورية”.
وفي هذه اللحظة التطورية منعطف خطير على مستوى معايير الجمال بالطبع. إذ أصبح كل ما يدل على “الخصوبة”، كما يدعي التطوريون، يدل على الجمال. ما يشد الرجل في المرأة هو ما يؤكد أنها من الممكن أن تنجب له الكثير من الأطفال. وما يشد المرأة إلى الرجل هو ما يؤكد قدرته على حمايتها وحماية الأسرة. وتنهمر من بعدها المعايير المفترضة والجدلية للغاية وكأنها معايير “علمية” للجمال.
وليست المقالة هنا في محاولة لنفي المعايير التطورية للجمال، إذ في ذلك الكثير من المصادر الأقدر على ذلك. لكنني في صدد التأكيد على أن اللحظة الفارقة في “خطاب” معايير الجمال كانت لحظة صعود الايديولوجيا التطورية نفسها. كما أن اتصال العالم العربي بهذا الخطاب يتم عبر تسرّب هذه الايديولوجيا للوعي العربي من خلال التماس المباشر وغير المباشر بالاستشراق والمفاهيم العلموية للجمال والأخلاق.
وعودًا على بدء، من هنا تحديدًا، نجد أن أم كلثوم، والتي ولدت قبل بداية القرن العشرين بسنتين، وتوفيت في بداية الربع الأخير منه، عاشت في اللحظة الانتقالية نفسها تلك. اللحظة التي تسرب فيها الخطاب الغربي للجمال، ولهذا تحديدًا كانت قادرة على الإفلات. وعلى العكس من الأسطرة التي تؤكد على أنها كانت الاستثناء فيما يخص معايير الجمال، نؤكد هنا أن أم كلثوم هي الإثبات الأهم على النقيض. كانت أم كلثوم بنت عصرها وثقافتها. إذ أن أهم رمز ثقافي وفني في القرن العشرين لم يكن منسجمًا مع المعايير الغربية للجمال. ولهذا، ليست هذه المعايير أبدية أو أصليّة على الإطلاق، بل هي متطفلة ومقحمة، ولا تنفي جمالية أم كلثوم التي تتجاوز هذه المعايير، ممثلة بذلك تعددية وعمق الثقافة العربية لما هو متجاوز للعولمة الحداثية القسرية.