“اصطدمتْ قدمي بالبابِ الأبنوس مصادفةً،
فطرقتُ..
من الطارق؟
ليس لديك جوابُ
أنت تذوب بصوتِك،
تطرق بابًا أخرى من ذات الخشب المدلوكِ،
بجذبٍ لا تعرفه،
من أنت؟ تعلّمً أسلوب الطرق وعد.
تعلّمً من أنتَ.”
– مظفر، بحار البحارين.
يلفّني انزعاج بالغ كلما وجدتني منغمسًا في حوار له علاقة بالدوام. يبدو لي أن ساعات العمل الطويلة واعتراضي الايديولوجي -أتفذلك إيه- على عالم الأعمال الذي تنتمي له وظيفتي يُشعرانني بضرورة ملحة للفصل التام بين العمل والحياة خارج العمل. ذلك ما أعتقد أن جزءًا كبيرًا من الناس يقوم به بشكلٍ تلقائي، على الأقل قبل التغييرات الأخيرة والهوس المتزايد بالإنتاجية والمساهمة في الاقتصاد الحديث لهذه البلاد. (إذ بعدها أصبح الفصل هذا واعيًا وليس تلقائيًا).
غير أنني، وفي الوقت ذاته، أجدني نوستالجيًا، ومليئًا بحنين لعمل سكان الخليج قبل النفط. أحاول بطرق عديدة أن أفهم تفاصيل دقيقة عن العمل في صيد اللؤلؤ والسمك في الخليج العربي مثلاً، كما أجدني مهتمًا بخوض حوار حقيقي لفهم المنتجات الزراعية التي ارتبطت بواحة القطيف تحديدًا، وبالمنطقة عمومًا. وهنا وجدتني واقعًا في التناقض الواضح والصارخ هذا:
لماذا أتفادى الحديث عن عملي اليومي، والذي أقضي فيه ما يزيد عن العشر ساعات يوميًا (خصوصًا مؤخرًا الله يلعن الدوام)، وأنزعجُ بدرجةٍ بالغة من أي جليس يتحدث عن دوامه، في الحين الذي أحاول أن أفهم “دوام” جدي وأبو أبو جدي؟ لست سلفيًا، بكل المعاني العديدة للسلفية، ولذا مالذي يمكن أن يتوارى خلف هذا التناقض؟
يمكن بسهولة بالغة أن نسرد هنا أثر النفط في الإجهاز على المهن التقليدية وعلاقة المهن التقليدية هذه بالثقافة التي كوّنتنا عمومًا، غير أنه سرد طويل قد لا يكون من أهمية له في موضوعنا سوى أن المهنة كانت (وما زالت؟) هي الثقافة. كان الخليجي بحارًا ومزارعًا، وذلك ما يعنيه أن تكون بحرينيًا وكويتيًا وقطيفيًا، خصوصًا في الحواضر. لم يكن من فاصل حقيقي بين حياة الإنسان الشخصية وحياته العملية.. بل كان المزارع والفلاح يستقي هويته الجمعية من هويته المهنية. يمكن أن نستفيض في سرد الفوارق الطبقية بطريقة مغايرة تمامًا عن سردنا للفوارق الطبقية التي نعرفها الآن، إذ أصبح الاستهلاك الآن هو الهوية الجامعة رغم الاختلاف المادي. (من يتخيل؟ الهوية الجامعة هي في النهاية إن احنا مستهلكين، بس يلا ما علينا).
“معضلة الإنسان الحديث هي انفصال حياته عن عمله.”
– أنا. ويمكن مقولة شهيرة بعد، مدري.
من هنا تحديدًا، يمكن فهم المقولة الشهيرة التي قد لا تكون شهيرة وقد أكون اخترعتها: “معضلة الإنسان الحديث هي انفصال حياته عن عمله”. إذ في الحين الذي تساوي الطبقة المتوسطة بين المهن وأصحابها، وتجعلهم بدرجة كبيرة متساوين ماديًا (واستهلاكيًا)؛ هي في الحين ذاته تلغي التمايزات الثقافية، بل وارتباط الإنسان بما يقوم به على مدى ثمان ساعات. إذ يعمل الإنسان في وظيفة متطلّبة تعود في النهاية بالنفع على صاحب رأس المال في المقام الأول، (وهو الشغوف بعمله بطبيعة الحال، والذي لا يفصل بين حياته وعلاقاته وعمله)، بينما يخرج موظف الطبقة المتوسطة من الشركة ناسيًا كل شيء وراءه، فاصلاً بين ما يقوم به في غالب يومه، وبين أهله وأصدقائه وزوجه وأبنائه.. نجد أننا، وفي الحياة الحديثة هذه، نعيش حياة مزدوجة.
أتذكر هنا المقاومة الثقافية والاقتصادية الهائلة من قبل الڤيتناميين للتغييرات الاقتصادية التي حاول أن يفرضها الفرنسيون عليهم. كان يعيش الڤيتنامي حياة بسيطة (وربما شاقة أيضًا) لأبعد حد. يقضي يومه بأكمله عاملاً في الحقول وفي الزراعة في قريته الصغيرة، وقد لا يخرج من منزله (أو حقله، أو مزرعته) إلا للسوق. منزله البسيط المتواضع الذي لا يرقى بأي حال لأن يكون منزلاً من طوب أو خشب أو حتى من طين، هو ذاته مقر عمله. وزملاؤه هم أهله وأسرته.. حاول الفرنسيون أن يغيروا من نمط الحياة “المتخلف” هذا للڤيتنامي. الخطة تضمنت أن يعيش الڤيتناميون في بيوت من حديد وترسانات وطوب، وأن يُستبدل نمط الحياة الشاق الذي لا يتوقف العمل فيه بنمط حياة آخر، يعمل فيه المرء ساعات محدودة في اليوم لشركةٍ تُقنِّنُ العمل بكفاءة عالية، ويكون فيه الاستثمار مركزيًا مما يأتي بالعوائد الأضخم على الاقتصاد، وبالتالي يأتي بالراحة على الڤيتنامي الغلبان نفسه. غير أن معارضة الڤيتناميين كانت لافتة للغاية.. لم يفهم الفرنسي ولا الانجليزي كيف للڤيتنامي أن يعترض على حياة أقل شقاء، على الأقل من ناحية نوع العمل وعدد ساعاته، وأكثر فائدة اقتصاديًا؟
يخطئ من يظن أن الڤيتنامي كان اشتراكيًا واعترض على رأس المال ومركزيته في تحويل المجتمعات، وهو اعتراض وجيه (يقوم المستعمر بتغيير الاقتصاد ونمط الحياة في النهاية من أجل استهلاك ما ينتج من الاقتصاد في المستعمرات، ولذا تكون البضاعة التي يستثمر فيها هي بضاعة تفيد الفرنسي والأوروبي لا الاقتصاد الڤيتنامي فعلاً). بس يعني حلو صراحة لو اعتراض الڤيتنامي منطلق من هنا، بس لا. ويخطئ أيضًا من يظن أن الڤيتنامي مجرد متخلف أهبل اعترض من منطلقات محافظة وخوفًا من التغيير، وبس. اعترض الڤيتنامي بشدة لأن التغيير الاقتصادي بهدف الراحة هذا هو تغيير لمعنى الحياة، تغيير لهوية الإنسان وما يعرفه عن نفسه وعن سلالته، والأهم: عن ثقافته، وليس فقط تقدمًا نحو حياة أكثر رفاهية. فهم الڤيتنامي الغلبان والبسيط هذا جيدًا، ويفهم كل من يتعرض لتغيير قسري هذا أيضًا. إن العمل، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة المباشرة، أي المرتبط بأهله وأصدقائه وموسيقاه ولغته، هو ما يضفي على حياة الإنسان معناها، وهو الضلع الأساسي لثقافة المجتمعات.
يفهم الغرب ما سردت جيدًا، ويمكن القول أن الغرب قد توصّل إلى هذا الفهم -المنطلق من منطلقات يسارية واشتراكية- بعد صعود الحركات العمالية واليسارية في المطالبة بحقوق، من قبيل تقليل ساعات العمل ومن قبيل التعامل المنصف والأخلاقي من قبل المدير تجاه من هو أقل منه، ومن قبيل مثلاً “توازن الحياة-العمل” Work-life Balance مؤخرًا. بل، يمكن القول أن رأس المال نفسه بدأ بالاستثمار الهائل في مفهوم “توازن الحياة-العمل”، من أجل عمال أكثر سعادة. إذ أنه بطبيعة الحال، عمال أكثر سعادة يعني عمل أكثر استدامة وفائدة. ولهذا، تقوم الدعاية الرأسمالية اليوم على مفهوم حقوقي يساري في الأصل، وهو أن الشركات بحاجة حقيقية لتقديم مساحة للإنسان في حياته الخاصة مختلفة جذريًا عن تلك التي تكون في العمل. ومن هنا يمكننا أن نرى هذا الفصل الدقيق ودوافعه: حينما نفصل بين الحياة والعمل، نصبح أكثر إنتاجية في العمل، ونصبح أكثر رفاهية في حياتنا الشخصية. بالأصح، منتجين ومستهلكين في الوقت نفسه.. مفكر فاصلين بين الاثنين عشان يحبونك ومبسطوين فيك يا غلبان؟
أعود الآن إلى نقطة البداية نفسها.. لماذا أحن إلى المزارع والبحّار والغواص، والذين عاشوا حيواة شاقة ومتعبة للغاية تشبه تلك التي دافع عنها الڤيتنامي نفسه؟ ببساطة، لأنني أريد أن أعرف من أنا. ما يقوم به الاقتصاد الحديث هو أنه يسلبك هويتك أولاً، يعطيك هوية المنتج المستهلك، ومن ثم يَسِمُكَ بالرجعية والتخلف إن أنت حنّيت لماضيك وهويتك التي لا تعرف غيرها، ناهيك عن منعك من السبل التي تسمح لك أن تعيد تشكيل نفسك من جديد. (مجنون انت تتحدى القمر؟ عفوًا، تتحدى الرأسمالية؟)
وصدقًا، ليس أمامي هنا سوى سبيلين. الاكتئاب، والانغماس في هذا العالم منزوع المعنى، منزوع الروح، والانغماس في الإنتاجية والاستهلاك. أو، أن أكون مجنونًا وأحلم. واسمحوا لي شوي، بس آي هاڤ ا دريم، بس الامريكان اللي عندهم حلم يعنييي؟
“إياك وأنت قليل الخبرةِ
إن الطرقَ يزيد البابَ المجهولةَ أبوابًا
ومفاتيحك من لغةٍ تغلقُ ما تفتحهُ…”
– مظفر، بحار البحارين مجددًا.
الفكرة بسيطة، مثل أي حلم عشوائي أو أي فكرة طفولية للغاية.. لا بد للعمل أن يرتبط ارتباطًا حقيقيًا بحياتنا اليومية، وعلاقاتنا الشخصية. بأهالينا وأصدقائنا، بقرانا وخليجنا ونخيلنا (وصحرائنا عشان لا يزعلون بعض الناس). يريد منا رأس المال والاقتصاد الحديث أن نتيك أونرشب. أتذكر أيام البنك في أميركا، إذا مر علينا المدير الكبير يؤكد: طريق النجاح هو أن تتصرف في وظيفتك على أساس أنك صاحب المال، أو صاحب الحلال. تحمل المسؤولية، وكُن مالكًا حقيقيًا لمسؤولياتك. هكذا يؤكد علينا رأس المال وهذا الاقتصاد الحديث. ويعني أوكيه، ممكن. لكن ماذا لو كان عملي هو حياتي فعلاً؟ ماذا لو لم يكن هذا الفصل البشع هو هذه الحياة البائسة؟ لأصبحت ڤيتناميًا ربما…
بالطبع لست ممن يحاول أن يؤكد على ضرورة بناء مغامرتك البزنسية الخاصة، ولست ممن يُعيّر العامل الشريف في عمله، كما أنني لا أعرف ما أريد بوضوح.. ما أعرفه هو أن السفر اليومي من البيت إلى الدوام على غرار أهل القطيف نحو الخبر والدمام والجبيل، وعلى غرار أغلب الناس الطبيعيين في الرياض، ليس حياة بل جحيم. وما أعرفه أن من يصبح عمله البائس الذي ينتهي بأضعاف ما يكسب لصاحب رأس المال، من يصبح عمله هذا هو حياته، هو كائن اقتصادي محض، وليس إنسانًا.
ولذا، ربما هي مجرد دعوة طفولية للتفكير في الهروب من الحياة المزدوجة الحديثة. دعوة لبداية التفكير في الهروب من أن يكون الفرد مسخًا.. مسخًا اقتصاديًا محضًا.