اتخذتُ موقفًا منذ مدةٍ ليست بالقصيرة تجاه نوع محدد من الروايات، أصفها بالروايات التكنيكية. أي: الرواية التي تقوم على مبادئ وأساسيات وطرق فنّية محاكة مسبقًا في تكوين الشخصيات وفي وصف المكان وفي التنقل في الزمان وفي صياغة الحبكة وغيرها، من أجل تقديم رواية جيدة، تحكمها مقاييس فنية محكمة ومضبوطة، تصنع من الرواية منتجًا وسلعةً كي تُباع، وذلك من خلال سلاسة قراءتها وأسلوبها الباعث على التشويق الذي يمنع القارئ من تركها قبل إنهائها، وفي الوقت ذاته مجرّدةً من الحساسيّة الفنية المتفرّدة عند الكاتب/ة، كعنصر رئيسي إبداعي، ومجردة من التجربة الشخصية الفريدة.
ويُمكن القول أن الموقف يتجه باتجاه الكثير من الروايات الأمريكية العصرية، والتي تكون نتيجةً في العادة لاعتبار الكتابة الروائية مهنة حياتية، والتي تعني جذب أكبر قدر من القراء بناء على تلك المقاييس.
إلا أنه وعلى الرغم من أنني يمكنني أن أسم «أنشودة المقهى الحزين» بالرواية التكنيكية إلى حدٍ ما، وهي التي درستْ كاتبتُها “الكتابة الإبداعية” في إحدى الجامعات الأمريكية، فإنني أراها رواية تحمل كلّ مزايا الرواية التكنيكية التي سبق وصفها، وتخلو من كلّ مساوئها. هي رواية سلسة، مشوّقة جدًا لا يُمكن للقارئ أن يتركها إلا بعد أن ينتهي منها. ذلك بالقدر ذاته الذي تحتوي الرواية فيه على الحساسية الفنية العالية، والفرادة الذاتية العالية في القبض على اللحظة الفنيّة، وذلك ما بان لدى الكاتبة بوضوح، بالإضافة إلى شدّة الملاحظة للتفاصيل البسيطة المتعددة الدلالات.
تبدأ الرواية في وصفٍ مستقبلي للقرية، وكأنّها تحاول تنبيه القارئ إلى أنْ يتنبّه قليلاً إلى القصص المتراوية خلف جدران المجانين والغرباء، وخلف أعينهم المنحرفة. وتنتهي أيضًا في وصفٍ لتفصيلٍ عابرٍ في مجرى الحكاية.
يزدهر المقهى في الرواية بتفجّر لعاطفة الحب، ولا نعرف أيّ حب هو. ولكنّه لا يذبل لنفاد هذه العاطفة المتفجّرة، بل هو يذبل لتفجّرها نفسه، والذي كان على صيغة تنازلات، لنفهم أنّ الحب محايدٌ دائمًا، وهو كما أنه يحيي بقدرٍ عالٍ من الجمال، يُميت بقدرٍ ليس بأقل من سابقه من القبح والبؤس. فليس انعدام الحب وفواته هو ما أنهى المقهى وصاحبته، بل الحب نفسه هو ما فعل ذلك.
ولهذا، يُمكننا أن نقول أنّ «أنشودة المقهى الحزين» صياغةٌ واقعية -أو تدّعيها- في وصفها البائس للحب.
يُمكن القول، أنه بهذا التمثُّل للحب في الرواية، والذي يضمّ شخصيات اعتيادية يوميّة نراها في الشارع بغرابة ولكن دون ملاحظة فاحصة، تقدّم الكاتبة فهمًا فريدًا لهذه العاطفة، تربط من خلالها ما قد يكون ابنًا ضالاً للمجتمع كما يراه المجتمع، أو ربما ضحيةً له كما يوحي السرد، تربطه بأخرى عتيّة وقويّة وبشخصية غير اعتيادية. ومن ثم تربطها بآخر غريب كل الغرابة، كي تنسج مفهومًا يحوي أطرافًا غير اعتيادية، ينتهي بفهم غير مجرّد للحب، باعتباره يتشكّل بتشكُّل المحبين، ويتفرّد بفرادتهم، وربما بغرابتهم أيضًا. وذلك تمامًا ما يجعل من الرواية نموذجًا جيدًا للرواية التكنيكية، حيث لا تخلو من الرؤية الفنية الداخلية وذلك ما كان مصاحبًا لتكنيكيتها الروائية الواضحة منذ البداية.
ختامًا، تبدو لي ترجمة علي المجنوني لهذه الرواية اقتحامًا ذا زخمٍ كبيرٍ يُعرّف روائيةً مهمةً كانت مجهولةً لدى القارئ بالعربية، وتضيف إلى المكتبة العربية الشيء القيِّم والكبيرة، من خلال لغةٍ انسيابيّة رائعة، تستحقّ القراءة بكل تأكيد.