كان في غرفةٍ يتجول، مليئًا بالفضول.. يقف في تلك الغرفة وقفته الأولى والتي لم يكن من الممكن أن يستمتع فيها. المتعة هنا بالنسبة إليه تشبه العبث. هو يهرب دائمًا من العبثية بأي طريقة ممكنة. كانت وما زالت الميكانيكا عنوانه الأول في فهم اللوحة التي يقف أمامها الآن. لا يبحث عن دراميتها ودهشتها، لا يبحث عن صفرة أشجارها الغريبة والمجردة، بل يبحث عن صيادها الذي ينتج فكرة باردة، لا علاقة لها، بما يسميه، ترهات الحالات الفنية المجردة. يصدح من حوله في هذا النقش الفني، أو هذي الوقفة، بيتهوفن هاتفًا له من أكثر من قرنين، يبحث عن ذاته وإحساسه كي يخاطبه. لكنه لا يعترف لا ببيتهوفن ولا غيره.. ولم تعد وقفته الأولى مجدية. مظلمٌ، بعد ذلك، أصبح هذا المكان الذي يعج باللاعقلانية التي لا تعني له شيئًا.
وقفة أولى كانت.. في الوقفة الثانية يخرج لاعنًا دخوله إلى هذه الغرفة وطقوسها. ليس من ملاذ هنا إلا في الغرفة التي تنتهي بالحقيقة والفكرة المفيدة. في الوقفة الثانية هو يؤمن أن الإنسان مجرد نتيجة للحداثة. هو هنا نتاج سياقات وتطوراتٍ للمجتمع البشري، ولا شيء يعنيه سوى هذه السياقات. قد يكون نتيجة للجغرافيا والتاريخ والثقافة، بل وحتى الجينات. وذلك وحده، كما يظن، هو ما يشكّله ولا شيء آخر.
في هذه الوقفة، هو ينظر في تصميم بناء هندسي متقن. تأتي بباله هندسيته الرياضية والمنطقية.. يعرف عظمته وقدرة المهندس العقلية في تصميمه. ولا يبالي بشيء من جماليته، بل يهتم بعقل ومنطق المصمّم وتصميمه، المتمثل في الأرقام والحسابات الدقيقة. عقله هنا هو الموجّه الأول لفهم أي شيء من خلال أداة اللغة والمنطق وحدهما، وربما الرياضيات، حيث لا معنى لشيء آخر.
لا بد أن يرجع بعد ذلك.. وقفة أخيرة مهمة، يبحث فيها عن ذلك الشيء الناقص. يعرف في قرارة نفسه أنه بائس بهذه النظرة السوداوية.. لا يمكنه أن يتفاعل مع هذه الأسئلة الوجودية العميقة التي لا يمكن لهذه العقلية العقلانية أن تفسرها، وهو يعلم جيدًا أنه لا يفهمها. لا يعرف في الواقع أين يجب أن يقف، لكنه يعلم أن وقفة ثالثة ضروريةٌ جدًا. وقفة من الممكن أن تشرح حالته الوجودية هذه، حيث ما يرتبط بأزمته شيء آخر تمامًا، ليس العقل المنطقي وحده.
لا وقفة يعرفها سوى تلك الأولى، لكن هل من الممكن أن يقفها؟ أن يعود للترهات التي لم يكن من الممكن له أن يتقبلها؟ هل تكون الترهات تلك هي الملاذ الحقيقي لهذه الأزمة؟ الصراع الآن في داخله بينه وبينه.. هو موقن أنه لا بد وأن يعود، فالعودة حتمية شاء أم أبى.. هنا المفرق: هل تكفي أدواته، أم أنه يجب أن يبحث عما يغني حسّه وروحه اللذين كان يعطلهما بعقلنته وبرفضه لأي أداة أخرى؟ هو هنا، لا بد أن يعلم أن الرؤية الفنية هي حتمًا جزءٌ مهمٌ في قضيته الوجودية هذه.. لا يمكنه أن يبقى بعيدًا عما يصدر الدهشة. أن يعرف أن فان جوخ كان ملاذه لوحته في ظل لاانتمائيته وضعفه وضياعه، لهو مؤكد على حقيقة الدقة التي تحملها الأعمال الفنية في إيصالها للأحاسيس التي تلامس البشر دون أن يفهمها باللغة والمنطق.. الأدوات هنا حسية. فالموسيقي يفكر بطريقة موسيقية، والفنان تبدو الدنيا أمامه ملوّنة ساطعةً ترويه، كما أن الشاعر يتجلى باستعاراته وصوره البديعة.
من هنا، هو يبحث عن بث الروح بشكل حقيقي في ذاته، ولا مجال لذلك دون الوقفة الأولى. لكن ذلك يزعجه.. ما زالت عقلانيته تعيش بداخله بشكل حقيقي، لا يمكنه أن يهرب منها. إلا أنه يحتاج إلى هذه الوقفة. من هنا، يعود إلى الوقفة الأولى نفسها: تعقيد الحالة الإنسانية التي تكتشفها اللوحة، أي الدهشة.. خوف العصفور، وهدوء ضوء القمر لبيتهوفن، من هذا التعقيد واللافهم اللغوي، بل الحسي يمكن له أن يتفاعل مع العالم بتفاعل الموسيقي والفنان والشاعر، ينظر من هنا إلى كل العمق والتعقيد الروحي، ويشعر به بالأدوات المناسبة. من هنا، هو يسلك طريقه في التعايش مع أزمته الوجودية هذه. يقذف بالأداة الأحادية العقلانية تلك، من شرفة الغرفة ذاتها، وكأنه يقذف بقيده المؤلم، ويستبدله بالأدوات المتعددة.. ويظل واقفًا بعدها أمام اللوحة، ومستمعًا لنداء بيتهوفن، في تأمّلٍ حسي ميتافيزيقيٍ طويل.
* كُتب في ملتقى أقرأ