كسمفونيّةٍ، يكوّن ميلان كونديرا روايته “الجهل” جزءًا بعد جزءٍ بشكلٍ دقيق ومُتقن، حيث لا يُمكن تحريك أو حذف أي جزء وتغيير أي حرف من روايته. فالرواية المرقّمة في فصولها القصيرة، حسب الترجمة العربية لمعن عاقل، تطبيقٌ واقعي واستمراريّة للمنهجية التي يتحدث عنها كونديرا في محاولةٍ لتطبيق “أخلاقية الرواية” التي هي حتمًا تكتشف “جزءًا من الوجود كان مجهولاً”، كما يقول في أحد كتبه النقدية. فالرواية تعمل بالتأكيد على البرهنة على تعقيد الحياة الإنسانية، كما تفعل بقيّة رواياته.
وهنا من الضروري أن ننتقل من الرؤية العامة إلى الرؤية الخاصة، حيث تبحث الرواية مفاهيم معقّدة ومتعددة، من خلال شخصيتين رئيسيتين: إيرينا وجوزيف. فكونديرا في هذه الرواية يسرد تطوّر الأحداث حتى تقاطع الشخصيتين، مطوّرًا من خلالهما مفاهيم عديدة.
(١)
إيرينا، المصابة بالنوستالجيا، والتي تشبه في نوستالجيتها “عوليس” من أوديسة هوميروس، هي من يعود إلى الوطن بحنينٍ كثيف، يصطدم بجهل هذا الوطن بها، كما بجهلها هي به. حيث تحاول براغ، عند عودتها إليها، أن تُعيدها للبيرة الاعتيادية بدلاً من النبيذ المعتق الراقي، الذي يدل على التأثر الواسع بالثقافة الفرنسية/ الباريسية على وجه الخصوص، والتي تمثّل عشرين سنةٍ ضائعة لا يهتم بها من هم في براغ، أو كما يريد أن يقول كونديرا، لا تهتم بها براغ نفسها. إيرينا هنا تريد الاندماج من جديد مع هذا الوطن القديم بتحدّي هذه البيرة، لكن دون جدوى. حيث أنّ الكنز الذي عاشته طيلة العقدين اللذين عاشتهما في المنفى غير مرحبٍ بهما، وإنما مرحبٌ ما كان قبل العقدين. وذلك في اتّساقٍ تام مع رؤية إيرينا لانقسام براغ إلى براغين. حيث براغ هنا تأخذ وجهًا تحبه، أي براغ الخضرة والطبيعة، في قبال براغ الناس والمجتمع والعادات التي لا تقبل عقديها، أو كنزها. ولا تتوقّف عقدة إيرينا مع الحنين والوطن والجهل عند هذا، حيث هي تؤكّد على أن خيار الهجرة والمنفى والزواج ليس خيارها، وهو الذي انتهى بها في هذا الموقف والذات المعقدة. وذلك ما يربطها بالوطن ارتباطًا وثيقًا، حيث يغدو طوق النجاة “براغيًا”، هي تختاره بنفسها وإن لم يكن في براغ، في لحظاتٍ ترتبط بذاكرتها وحنينها الأول للوطن، ويختلط ذلك بشوقها وشغفها ب/لطوق النجاة هذا، وهو جوزيف.
(٢)
في المقابل، لا يشعر العائد الآخر، جوزيف، بذات النوستالجيا التي تشعر بها إيرينا. حيث يرجع إليه بعد انقضاء العقدين ذاتهما، لكن متأخّرًا. حنينه معقّد، حيث هو يبحث في الماضي عمّا هو حديث حين يلتقي بأخيه للمرة الأولى، ويزعجه أيضًا نسيانه لزوجته -التي تُوفّيت- وهي التي ترتبط بالمنفى. لا يذكّره الوطن هنا سوى بكلّ شيءٍ يخجل منه ويكرهه، حيث يذكّره بساديّته المراهِقة، ولوحته المنهوبة، والشيوعية المزعجة. حيث يختلف عن إيرينا هنا بقراره.. جوزيف قرّر المغادرة ضاربًا بعرض الحائط فكرة أن تتضرر عائلته كي يعيش الحياة التي تريد، وذلك ما لم تفعل إيرينا. لا يتوقف عند ذلك، حيث عودته تذكّره بالعبء دائمًا. وهنا يتمثّل الوطن بابنة زوجته الغاضبة، والتي تريد، هي وأمها، إزعاجه في هذه اللحظات البسيطة التي تريدان الحديث فيهما إليه، وذلك ما يجعله يهرب إلى أقربِ ملاذ، أيْ إيرينا.
(٣)
تتمثّل موسيقية “الجهل” بشكلٍ فاقع وواضح في استطرادات كونديرا وسط الرواية. حيث أنّه يتوقف قليلاً للحديث عن الموسيقى تارة، وللحديث عن الزمن بفلسفة عميق تارةً أخرى. حيث تشبه هذه الاستطرادات الموسيقى الخلفيّة لسمفونيّةٍ، تُهيّئُ لذروةٍ موسيقية وتوتّرٍ درامي مؤثّر، لا يُمكنه أن يكتمل دون التهيئة هذه، والتي قد لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا باللحن الظاهر (أو الحدث). حيث أنّ فهم الإنسان للزمن يغيّر من مفاهيمه؛ فلا معنى للوطن لو كان للإنسان زمنًا أطول للحياة، يتمكن خلاله من تكوين تجارب عميقة وعاطفية حقيقية مع عدّة أماكن مختلفة قد تُسمّى أوطانًا، أو قد تُسمّى تجاربًا مختلفة. حيث ينحصر مفهوم الوطن، عند كونديرا، على الذاكرة التي ترتبط جذريًا بالمكان والزمان السابق الذي يكوّن الوعي الإنساني. ولا يتوقّف هنا، حيث أنّ الذاكرة الإنسانية التي تتذكّر جزءًا بسيطًا جدًا من الحياة المعاشة لا يعوّل كونديرا عليها، وهي التي تكوّن مفاهيم مثل الوطن. حيث جهل الإنسان بعطب ذاكرته عاملٌ رئيسٌ في تشكيل مفاهيمه تجاه علاقاته، سواءً بالوطن أم بالآخرين.
وفي استطرادٍ آخر، ضجيج الموسيقى الذي تستنتجه الحداثة ال”سكاسية”، والذي كان يتنبأ بحداثةٍ تدوم ٣٠٠ سنة، وفشلها في الخلود في مقارنةٍ مع ستراڤينسكي وغيرهما، وذلك لأنه كان يعيش المستقبل ولم يعش الحاضر. وهي هنا، تهيئةٌ حقيقية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحدث الذي يتليها، والمرتبط بإيرينا ارتباطًا وثيقًا، وذلك كما ترتبط فلسفة الزمن والذاكرة بكل الذروة التي تعقب تأثّر إيرينا بنقد كونيدرا الموسيقي.
(٤)
يعود كونديرا من استطراداته إلى الحدث، أو المكان. الخضرة هنا عند إيرينا هي الحدث. حيث الحنين الذي لا يُمكن أن تشبعه براغ التي تحب بعد العودة -وذلك لأنّها تتلازم مع براغ التي لا تحب-، هذا الحنين لا بدّ وأن يقع على مكانٍ آخر. فمشهد جولة إيرينا حول خضرة براغ التي تحب هو ما يحدد قرارها في الهروب من زواجها الذي لم تختره واختارته الظروف، إلى حضن جوزيف. هنا، الحنين والذاكرة التي ربطت إيرينا بجوزيف في المقهى وجعلتها تختاره، هو الدافع. وفي المقابل، لا يرتبط جوزيف بإيرينا بنفس العمق. حيث ذاكرته تخونه ولا يتذكر حتى اسمها، فهي الملاذ والمهرب لا الاختيار والقرار كما تفكّر هي. من هنا يُمكن ملاحظة تعقيد الرواية وارتباط الرواية العميق بعنوانها: الجهل. حيث الجهل المتبادل في علاقة جوزيف وإيرينا الهشّة، أي جهل الدوافع والطموحات، هو ما يخلق الأزمة الدرامية التي تتصاعد الرواية كي تصل إليها. وهنا يتسرّب كافكا إلى ذهن كونديرا -وهو المتأثر كثيرًا به-، حيث لا سلطة لهما على الحالة المعاشة. الجهل هنا هو صاحب السلطة العليا في تسيير العلاقات وتعقيدها وتأزيمها، ولا يُشبه الجهل هنا سوى إرادة وسلطة كونديرا على شخصيات روايته، والتي لا تصل نهايتها إلى أكثر النهايات والبُنى دراميّةً وتعقيدًا من بقيّة رواياته.